فَتَقْيِيدُ حَدِّ الْمُجْمَلِ بِاللَّفْظِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَامِعًا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي حَدِّ الْمُجْمَلِ مِنْ أَنَّهُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ مَعْنَاهُ لَا بِوَضْعِ اللُّغَةِ وَلَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِيهِ حَدَّيْنِ آخَرَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ (الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ مِنْهُ) وَيَبْطُلُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ جِهَةُ مَجَازِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ.
الثَّانِي: قَالَ: (الْمُجْمَلُ هُوَ مَا أَفَادَ شَيْئًا مِنْ جُمْلَةِ أَشْيَاءَ هُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ لَا بِعَيْنِهِ) ، قَالَ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِكَ: " اضْرِبْ رَجُلًا " فَإِنَّ مَدْلُولَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَيُّ رَجُلٍ ضَرَبْتَهُ جَازَ، وَلَا كَذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْءِ فَإِنَّ مَدْلُولَهُ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ مِنَ الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِتَقْيِيدِ الْحَدِّ بِاللَّفْظِ حَيْثُ قَالَ: (وَاللَّفْظُ لَا بِعَيْنِهِ) فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بِخُرُوجِ الْإِجْمَالِ فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَنْهُ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ، لَوْ أُرِيدَ تَحْدِيدُ الْمُجْمَلِ اللَّفْظِيِّ خَاصَّةً.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: (الْمُجْمَلُ هُوَ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ) .
فَقَوْلُنَا: (مَا لَهُ دَلَالَةٌ) لِيَعُمَّ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُجْمَلَةِ.
وَقَوْلُنَا: (عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَا دَلَالَةَ لَهُ إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَوْلُنَا: (لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَبِعِيدٌ فِي غَيْرِهِ، كَاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ وَمَجَازٌ فِي شَيْءٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي لَفْظٍ مُفْرَدٍ مُشْتَرَكٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ تَعْمِيمِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ، كَالْعَيْنِ، لِلذَّهَبِ وَالشَّمْسِ، وَالْمُخْتَارِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، أَوْ ضِدَّيْنِ كَالْقُرْءِ، لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. (?)