الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ لَمَا عُلِمَ صِدْقُ صَادِقٍ، وَلَا كَذِبُ كَاذِبٍ، وَلَا حَصَلَ وُثُوقٌ بِيَمِينٍ، وَلَا وَعْدٌ وَلَا وَعِيدٌ، وَلَا حَصَلَ الْجَزْمُ بِصِحَّةِ عَقْدِ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، وَلَا لُزُومُ مُعَامَلَةٍ أَصْلًا؛ لِإِمْكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّلَاعُبِ وَإِبْطَالِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
احْتَجَّ الْخُصُومُ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» " ثُمَّ سَكَتَ وَقَالَ بَعْدَهُ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَوْلَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ السُّكُوتِ لَمَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ مُقْتَدًى بِهِ.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ عَنْ عِدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِيهِ، فَقَالَ: غَدًا أُجِيبُكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} .
فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِخَبَرِهِ الْأَوَّلِ (?) .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا فَعَلَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَفْصَحِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ وَتَخْصِيصٌ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَجَازَ تَأْخِيرُهُ كَالنَّسْخِ وَالْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُخَصِّصَةِ لِلْعُمُومِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ لِحُكْمِ الْيَمِينِ فَجَازَ تَأْخِيرُهُ كَالْكَفَّارَةِ.