الرَّابِعُ: أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى لَهُ خَبَرٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِيهِ.

وَقَدْ أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ " مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ " بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفِيدُ صِدْقَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ صِدْقِ الْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمَا صَادِقٌ حَالَ صِدْقِ الْآخَرِ.

وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ كَاذِبًا، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: هُمَا صَادِقَانِ وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قِيلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ: هُمَا صَادِقَانِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا صَادِقًا، حَالَ صِدْقِ الْآخَرِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَالْأَعَمُّ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِالْأَخَصِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَذِبِ الْأَخَصِّ كَذِبُ الْأَعَمِّ.

وَأَجَابَ أَبُو هَاشِمٍ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ جَارٍ مَجْرَى خَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا خَبَرٌ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَالْآخَرُ خَبَرٌ بِصِدْقِ مُسَيْلِمَةَ.

وَالْخَبَرَانِ لَا يُوصَفَانِ بِالصِّدْقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.

وَإِنَّمَا الَّذِي يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ أَيْضًا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَفَادَ حُكْمًا وَاحِدًا لِشَخْصَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وَصْفِهِ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، بِدَلِيلِ الْكَذِبِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ مَوْجُودٍ حَادِثٌ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ حُكْمًا وَاحِدًا لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: " مَا دَخَلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ " أَنَّ اللُّغَةَ لَا تُحَرِّمُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ: صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ. وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ غَيْرُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ.

وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَيْهِمَا مَعًا مَعَ عَدَمِ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَاذِبًا فَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ، وَقَدْ قِيلَ: الْخَبَرُ مَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ حَاصِلُ هَذَا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ خَبَرٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى خَبَرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا صَادِقٌ وَهُوَ إِضَافَةُ الصِّدْقِ إِلَى مُحَمَّدٍ. وَالْآخَرُ كَاذِبٌ وَهُوَ إِضَافَتُهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ.

وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو الْخَبَرُ فِيهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ صِدْقٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ كَذِبٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فِي السَّلْبِ أَوِ الْإِيجَابِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015