وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ غَايَتَهُ اشْتِمَالُ الْمَدِينَةِ عَلَى صِفَاتٍ مُوجِبَةٍ لِفَضْلِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْفَضِيلَةِ عَنْ غَيْرِهَا وَلَا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِهَا.
وَلِهَذَا فَإِنَّ مَكَّةَ أَيْضًا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ مُوجِبَةٍ لِفَضْلِهَا كَالْبَيْتِ الْمُحْتَرَمِ، وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ، وَالْحَجَرِ الْمُسْتَلَمِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ، وَهِيَ مَوْلِدُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَبْعَثُهُ وَمَوْلِدُ إِسْمَاعِيلَ (?) وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِهَا عَلَى مُخَالِفِيهِمْ إِذْ لَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا أَثَرَ لِلْبِقَاعِ فِي ذَلِكَ.
وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَمَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي الْبِلَادِ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْأَمْصَارِ وَكُلُّهُمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ سَوَاءٌ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» (?) " وَلَمْ يُخَصِّصْ ذَلِكَ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْمَوَاضِعِ فِي ذَلِكَ.
وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ.
كَيْفَ وَإِنَّ الْفَرْقَ حَاصِلٌ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَالُ: فَهُوَ أَنَّ الرِّوَايَةَ يُرَجَّحُ فِيهَا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ حَتَّى إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ أَيْضًا.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: فَهُوَ أَنَّ الرِّوَايَةَ مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَوُقُوعُ الْحَوَادِثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِحَضْرَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْرَفَ بِذَلِكَ وَأَقْرَبَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَرْوِيِّ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ أَرْجَحَ.
وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ: فَإِنَّ طَرِيقَهُ النَّظَرُ وَالْبَحْثُ بِالْقَلْبِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ.
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ - مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْمِصْرَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ - حُجَّةً عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.