وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنِ اسْتِحْسَانِ دُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ عِوَضٍ لِلْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ السُّكُونِ فِيهَا، وَتَقْدِيرِ أُجْرَتْهِ، وَاسْتِحْسَانِ شُرْبِ الْمَاءِ مِنْ أَيْدِي السَّقَّائِينَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فِي الْمَاءِ وَعِوَضِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحْسِنَ فِي الْمُتْعَةِ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَأَسْتَحْسِنَ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَسْتَحْسِنَ تَرْكَ شَيْءٍ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ فِي السَّارِقِ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ الْيُسْرَى بَدَلَ الْيُمْنَى فَقُطِعَتْ: الْقِيَاسُ أَنْ تُقْطَعَ يُمْنَاهُ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ لَا تُقْطَعَ.
فَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ إِلَّا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَيَهْوَاهُ مِنَ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحُسْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ مَحَزَّ الْخِلَافِ؛ لِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى امْتِنَاعِ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِي شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَهَوَاتِهِ وَهَوَاهُ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَالْعَامِّيِّ وَإِنَّمَا مَحَزُّ الْخِلَافِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَعْرِيفِهِ بِحَدِّهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَلِيلٍ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ، وَالْوَجْهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُحَقَّقًا وَوَهْمًا فَاسِدًا فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِهِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي تَخْصِيصِهِ بِاسْمِ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ دُونَ حَالَةِ إِمْكَانِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَلَا حَاصِلَ لِلنِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ إِلَى النَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْعَادَةِ.