الْقِسْمُ الثَّانِي
فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ
كُنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجْهَ اسْتِمْدَادِ الْأُصُولِ مِنَ اللُّغَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمَبَادِئِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهَا، وَلْنُقَدِّمْ عَلَى ذَلِكَ مُقَدِّمَةً فَنَقُولُ:
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ مَوْجُودٍ فِي عَالَمِ السُّفْلِيَّاتِ ; لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَطْلُوبَاتِ وَأَسْنَى الْمَرْغُوبَاتِ، بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْمَعْقُولَاتِ، وَالْمَيْزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: ( «كُنْتُ كَنْزًا لَمْ أُعْرَفْ، فَخَلَقْتُ خَلْقًا لِأُعْرَفَ بِهِ» . (?) وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ دُونَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ النَّظَرِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ، الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إِلَى مَطْلُوبَاتِهِ وَتَحْقِيقِ حَاجَاتِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ مَعَارِفِهِ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ دُونَ مُعِينٍ وَمُسَاعِدٍ لَهُ مِنْ نَوْعِهِ، دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى نَصْبِ دَلَائِلٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي ضَمِيرِ الْآخَرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُعِينَةِ لَهُ فِي تَحْقِيقِ غَرَضِهِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَلَا فِيهِ ضَرَرَ الِازْدِحَامِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا نَصْبٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا نَوْعُ الْإِنْسَانِ دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ.
وَمِنِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبَاتِ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ حَدَثَتِ الدَّلَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ اللُّغَوِيَّةُ.