ولذلك نجد أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بقي ثلاثة عشر عاما يربي الرجال واحدا واحدا، ويهيئ الأمة جماعة جماعة، استعدادا لحمل الرسالة والذود عنها.
فقوم في دار الأرقم، وآخرون يهاجرون إلى الحبشة، ومرة يحصر الجمع في شعب أبي طالب، ثم تأتي الهجرة إلى المدينة.
كل هذا وغيره هيأ هذه الأمة لحمل الرسالة حتى كمل الدين وفتح الله على المسلمين فتحا عظيما.
ومما سبق يتضح أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن لتمامه، واكتمال بنائه، وهو سبب من أسباب تأخر النصر وظهور دين الله مهيمنا على البشر.
5 - عدم إدراك قيمة النصر:
إن مجيء النصر سريعا دون كبير مشقة ولا عناء، يجعل الأمة المنتصرة لا تعرف قيمة هذا الانتصار، ومن ثم لا تبذل من الجهود للمحافظة عليه ما يستحقه وما يحتاج إليه.
وسأضرب مثلين يوضحان هذه الحقيقة:
(ا) الرجل الذي عاش في الفقر ثم جد واجتهد في تحصيل المال حتى أصبح غنيا، نجد أنه يحافظ على هذا المال محافظة عجيبة، ويبذل كل الوسائل الممكنة للذود عنه وحمايته.
وذلك لأنه ذاق طعم الفقر ومذلته، ثم إنه تعب في جمع هذا المال وتنميته، فليس من السهولة أن يفرط فيه، ويكره أن يعود للفقر بعد أن أخرجه الله منه، كما يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه.
أما أولاده وورثته، فتجد أن الكثير منهم لا يولي هذا المال ما يستحقه من عناية واهتمام، بل قد يعبث فيه حتى يصبح فقيرا.
وذلك أنه لم يعرف قيمة هذا المال، ولم يتعب في جمعه وكسبه، ولم يذق طعم الفقر كما ذاقه مورثه.
(ب) قيام الدول وسقوطها:
مما يلحظ بالاستقراء والتتبع أن الدول تكون إبان قيامها قوية مهابة، وتجد أن الأمراء والخلفاء يبذلون جهودا مضاعفة للمحافظة على الدولة، وتلافي جميع أسباب ضعفها.