الحقيقية كما يظهر للمتأمل الاجتماعي أعمق من ذلك كله، فلكل نظام سياسي طابعه الذي يطبع به الإنسان الذي يعيش تحت ظله، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة الاجتماعية {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]!
إن الملك بطبيعته يقوم على الإذلال والقهر، وتحطيم الشخصية الإنسانية واستعبادها، ولهذا تتحلل مع طول الأمد وتوارث الملك من قيمها المعنوية لتتحول إلى مسخ مشوه، حتى ينشأ إنسان ذليل مقهور حتى لأضعف الملوك الذين لم يكن لهم يد في صناعة الملك، اللهم إلا أنه ورث العرش والصولجان، والأرض والإنسان!
وهذا بخلاف الجمهوريات مهما كانت مستبدة طاغية، فإن الإنسان فيها يتحين تغيرها وتبدلها، ويحتفظ بمخزون إنسانيته إلى حين ذلك، إذ لا يطبع بطابع العبودية التي يطبع بها الإنسان في الأنظمة الوراثية، فهو لا يستشعر أن بينه وبين من هو في السلطة أي فرق، ويرى بأن أي مواطن قد يصبح رئيسا بكفاحه ونضاله، بخلاف الأنظمة الوراثية التي يتحلل فيها شعور الإنسان شيئا فشيئا وجيلا فجيلا حتى ينعدم إحساسه بالمساواة بينه وبين الملك وسلالته، فيبدأ المخيال الشعبي باختلاق أوهام عن الخصوصية والاصطفاء والصفات التي جعلت من هذه السلالة تتبوأ هذا المقام السامي، ليتلاشى شيئا فشيئا إحساس الإنسان بإنسانيته أمام هذا الحاكم وسلالته ولو كانوا أطفالا صغارا!
بل قد يبلغ الأمر ذروته بالعلماء والمفكرين والأدباء والأذكياء أن يصبحوا أسرى الوهم في ظل الملكيات حتى أنهم لا يتصورون أصلا إمكان وجود المجتمع والدولة بدون الملك وأسرته!
وقد يبلغ بهم الخوف من تغير الأوضاع وزوال الملك وأسرته حد الهوس والجنون، كالعبد الذي لا يتصور أن بإمكانه العيش والحياة دون سيده!
لقد تحدث عن هذه الظاهرة الإنسانية وعبر عنها قبل أربعة قرون المفكر الفرنسي لوبواسييه في كتابه (العبودية المختارة)،ونجح في تحليل نفسية الإنسان في ظل عبودية الملك بقوله (إن السبب الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد هو كونهم يولدون