والسبب الذي جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع دستور المدينة أول دخوله إليها، هو كونه كما وصفه الله ليس بجبار، ولا ملك، ولا مسيطر، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]،والجبار هو الملك، وقد بايعه أهل المدينة المؤمنون به في العقبة الثانية على عقد سياسي، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» (?)
وعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» (?)
فكانت العلاقة السياسية التي قامت بناء عليها دولة المدينة، علاقة تعاقدية بين الأمة من المؤمنين من جهة، والسلطة والإمام من جهة أخرى، لا تنازع فيها للأمر والسلطة، بل هو شورى، كما لا يغيب دور الأمة ومسئوليتها بعد العقد للسلطة وبيعتها على السمع والطاعة، بل تظل الأمة قائمة بالحق لا تخاف في الله لومة لائم، وهذه العلاقة قائمة مع السلطة ما لم تخرج عن الشريعة والعدل والقسط الذي جاءت به، فإن خرجت فلا سمع لها ولا طاعة ..