ففقدوا بهذه الشكوك المتراكمة - التي ثبطتهم عن القيام لله بالقسط والحق - درجة الصديقية!
لقد تجلى إيمان أبي بكر العميق الراسخ رسوخ الجبال في مواقف تاريخية كبرى، وكان أولها حين دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ،- قَالَ: إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي بِالعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا"
وخرج على الناس وهم في المسجد وقد أصابهم هول المصيبة حتى طاشت عقولهم، وعمر يهذي ويقول: والله ما مات رسول الله وإنما ذهب يناجي ربه كما ذهب موسى!
فخَرَجَ (أبو بكر) فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]،وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]،قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ" (?)
لقد وقف أبو بكر موقف الصديقين الموقنين، فثاب المسلمون إلى رشدهم، وأدركوا أن الواجب عليهم في هذه اللحظة ليس البكاء بل نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته كنصره في حياته، وذلك بنصر دينه، وحمل رسالته، وحماية دولته، وإكمال مهمته، فبادروا إلى السقيفة في اليوم ذاته ليتشاوروا في أمر الخلافة واختيار السلطة، ومن يسوس شئون الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فلما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، اختلفوا واضطربوا حتى كادوا أن يقتتلوا، فإذا الصديقية تتجلى من جديد في أعظم حادثة تمر على الأمة وفي أشد أيامها، فانبرى لهم أبو