ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم. إنها لا تقف لتسأل: ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ .. لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق .. «قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ .. وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبرا، وتوفنا مسلمين» ..

إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع. كما أنه لا يخضع أو يخنع. الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره: «قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» .. والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت .. وأنها معركة العقيدة في الصميم .. لا يداهن ولا يناور .. ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة: «وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» ..

والذي يعرف أين يتجه في المعركة، وإلى من يتجه لا يطلب من خصمه السلامة والعافية، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» ..

ويقف الطغيان عاجزا أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان .. يقف الطغيان عاجزا أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام. فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله .. وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان! إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية. هذا الذي كان بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة .. السابقين ..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015