عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِنْ مَنَعُوا الْمَالَ زَالَتِ الْمُوَادَعَةُ وَارْتَفَعَ الْأَمَانُ وَلَزِمَ جِهَادُهُمْ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ مَنْعُهُمْ مِنْ مَالِ الْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ، وَجَازَ حَرْبُهُمْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ.
وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْأَلُوا الْأَمَانَ وَالْمُهَادَنَةَ، فَيَجُوزُ إذَا تَعَذَّرَ الظَّفَرُ بِهِمْ وَأَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ فِي مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ يَعْقِدُ الْهُدْنَةَ عَلَيْهَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْهُدْنَةِ أَوْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ.
قَدْ هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ. وَيَقْتَصِرُ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ عَلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ وَلَا يُجَاوِزُ أَكْثَرُهَا عَشْرَ سِنِينَ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا بَطَلَتْ الْمُهَادَنَةُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَهُمْ الْأَمَانُ فِيهَا إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَلَا يُجَاهِدُونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ، فَإِنْ نَقَضُوهُ صَارَ حَرْبًا يُجَاهِدُونَ مِنْ غَيْرِ إنْذَارِ، قَدْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفَتْحِ مُحَارِبًا حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ صُلْحًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْوَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلَا يَجُوزُ إذَا نَقَضُوا عَهْدَهُمْ أَنْ يُقْتَلَ مَا فِي أَيْدِينَا مِنْ رَهَائِنِهِمْ، قَدْ نَقَضَ الرُّومُ عَهْدَهُمْ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ وَفِي يَدِهِ رَهَائِنُ فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مِنْ قَتْلِهِمْ وَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ وَقَالُوا: وَفَاءٌ بِغَدْرٍ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ بِغَدْرٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" 1.
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَتْلُ الرَّهَائِنِ لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُمْ مَا لَمْ يُحَارِبْهُمْ، فَإِذَا حَارَبَهُمْ وَجَبَ إطْلَاقُ رَهَائِنِهِمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا وَجَبَ إبْلَاغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا ذَرَارِيَّ نِسَاءً وَأَطْفَالًا وَجَبَ إيصَالُهُمْ إلَى أَهَالِيِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَا يَنْفَرِدُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ رِجَالِهِمْ، فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إلَيْهِمْ إنْ كَانُوا مَأْمُونِينَ عَلَى دَمِهِ، وَلَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمَنُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ رَدُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُنَّ ذَوَاتُ فُرُوجٍ مُحَرَّمَةٍ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ رَدُّهُنَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدُّوا، وَدَفَعَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُهُورَهُنَّ إذَا طُلِّقْنَ.
وَإِذَا لَمْ تَدْعُ إلَى عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ ضَرُورَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُهَادِنَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ