عَدَدٍ حَتَّى دَانَتْ لَهُمْ الْعَرَبُ، فَصَدَقَتْ الْمَخِيلَةُ الْأُولَى فِي الرِّيَاسَةِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ سبحانه نَبِيَّهُ رَسُولًا، فَصَدَقَتْ الْمَخِيلَةُ الثَّانِيَةُ فِي حُدُوثِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ هُدِيَ وَجَحَدَ مَنْ عَانَدَ، وَهَاجَرَ عَنْهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ اشْتَدَّ بِهِ الْأَذَى حَتَّى عَادَ ظَافِرًا بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ مِنْ هِجْرَتِهِ عَنْهُمْ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دُخُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، هَلْ دَخَلَهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، مَعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْنَمْ مِنْهَا مَالًا، وَلَمْ يَسْبِ فِيهَا ذُرِّيَّةً، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً فَعَفَا عَنِ الْغَنَائِمِ، وَمَنَّ عَلَى السَّبْيِ، وَإِنَّ لِلْإِمَامِ إذَا فَتَحَ بَلَدًا عَنْوَةً أَنْ يَعْفُوَ عَنْ غَنَائِمِهِ، وَيَمُنَّ عَلَى سَبْيِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ دَخَلَهَا صُلْحًا عَقَدَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَ الشَّرْطُ فِيهِ أَنَّ: "مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ كَانَ آمِنًا، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"1.
إلَّا سِتَّةَ أَنْفُسٍ اسْتَثْنَى قَتَلَهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُمْ، وَلِأَجْلِ عَقْدِ الصُّلْحِ لَمْ يَغْنَمْ وَلَمْ يَسْبِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إذَا فَتَحَ بَلَدًا عَنْوَةً أَنْ يَعْفُوَ عَنْ غَنَائِمِهِ، وَلَا يَمُنَّ عَلَى سَبْيِهِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالى وَحُقُوقِ الْغَانِمِينَ، فَصَارَتْ مَكَّةُ وَحَرَمُهَا حِينَ لَمْ تُغْنَمْ أَرْضَ عُشْرٍ إنْ زُرِعَتْ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا، فَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَيْعِهَا وَأَجَازَ إجَارَتَهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ، وَمَنَعَ مِنْهُمَا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَكَّةُ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا أُجُورُ بُيُوتِهَا" 2.