فَإِنْ كَانَ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ جَازَ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهُ عَاوَضَ عَنْهُمْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْغَانِمِينَ عَنْ تَرْكِ حَقِّهِ لَمْ يُسْتَنْزَلْ عَنْهُ إجْبَارًا حَتَّى يَرْضَى، وَخَالَفَ ذَلِكَ حُكْمُ الْأَسْرَى الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الرِّجَالِ مُبَاحٌ، وَقَتْلَ السَّبْيِ مَحْظُورٌ، فَصَارَ السَّبْيُ مَالًا مَغْنُومًا لَا يَسْتَنْزِلُونَ عَنْهُ إلَّا بِاسْتِطَابَةِ النُّفُوسِ.
قَدْ اسْتَعْطَفَتْ هَوَازِنُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ سَبَاهُمْ بِحُنَيْنٍ، وَأَتَاهُ وُفُودُهُمْ وَقَدْ فَرَّقَ الْأَمْوَالَ وَقَسَمَ السَّبْيَ، فَذَكَّرُوهُ حُرْمَةَ رَضَاعِهِ فِيهِمْ مِنْ لَبَنِ حَلِيمَةَ، وَكَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ.
حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا سُبِيَتْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ بِحُنَيْنٍ، قَدِمَتْ وُفُودُهُمْ مُسْلِمِينَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَنَا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ قَامَ مِنْهُمْ أَبُو صُرَدَ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ1 فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّائِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مُلِّكْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ2 أَوْ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِر، ِ ثُمَّ نَزَلْنَا بِمِثْلِ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلْنَا رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَجَائِزَتَهُ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلِينَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ "مِنَ الْبَسِيطِ":
اُمْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ
اُمْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزَّقٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غَبَرُ
اُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ
الْآنَ إذْ كُنْتَ طِفْلًا كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ تُرَبِّيكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إذْ لَمْ تُدَارِكُنَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ