ظَاهِرِ الْكِتَابِ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ كَانَ إمْضَاءُ الْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الِابْتِيَاعِ أَحَقَّ، فَإِنْ سَأَلَ إحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ ابْتِيَاعَهُ كَانَ حَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الرَّهَبِ وَالْإِلْجَاءِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إحْلَافِهِ لِاخْتِلَافِ مَا ادَّعَاهُ؛ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى جَوَازِ إحْلَافِهِ؛ لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ وَإِمْكَانِهِ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ إحْلَافِهِ؛ لِأَنَّ مُتَقَدِّمَ إقْرَارِهِ مُكَذِّبٌ لِمُتَأَخِّرِ دَعْوَاهُ.
وَلِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَعْمَلَ مِنَ الْقَوَانِينِ بِمَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْحَالَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَأَظْهَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كِتَابَ بَرَاءَةٍ مِنْهُ، فَذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ، وَلَمْ يَقْبِضْ كَانَ إحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْكِتَابِ الْمُقَابِلِ لِلدَّعْوَى عُدُولًا غَائِبِينَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَضَمَّنَ إنْكَارُهُ اعْتِرَافًا بِالسَّبَبِ كَقَوْلِهِ: لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الضَّيْعَةِ؛ لِأَنَّنِي ابْتَعْتُهَا مِنْهُ وَدَفَعْتُ ثَمَنَهَا إلَيْهِ، وَهَذَا كِتَابُ عَهْدِي بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمُدَّعِي مُدَّعِيًا بِكِتَابٍ قَدْ غَابَ
شُهُودُهُ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَلَهُ زِيَادَةُ يَدٍ وَتَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْأَمَارَةُ أَقْوَى، وَشَاهِدُ الْحَالِ أَظْهَرَ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْمِلْكُ فَيُرْهِبُهُمَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمَا، وَيَأْمُرُ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ إنْ أَمْكَنَ، وَيَضْرِبُ لِحُضُورِهِمْ أَجَلًا يَرُدُّهُمَا فِيهِ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتْ إلَى صُلْحٍ عَنْ تَرَاضٍ اسْتَقَرَّ بِهِ الْحُكْمُ، وَعَدَلَ عَنِ اسْتِمَاعِ الشَّهَادَةِ إذَا حَضَرَتْ، وَإِنْ لَمْ يَنْبَرِمْ مَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا أَمْعَنَ فِي الْكَشْفِ عَنْ جِيرَانِهِمَا وَجِيرَانِ الْمِلْكِ، وَكَانَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ رَأْيُهُ فِي زَمَانِ الْكَشْفِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْهَا مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ.
إمَّا أَنْ يَرَى انْتِزَاعَ الضَّيْعَةِ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَسْلِيمَهَا إلَى الْمُدَّعِي، إلَى أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى أَمِينٍ تَكُونُ فِي يَدِهِ، وَيَحْفَظُ اسْتِغْلَالَهَا عَلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيُنَصِّبَ أَمِينًا يَحْفَظُ اسْتِغْلَالَهَا، وَيَكُونُ حَالُهُمَا عَلَى مَا يَرَاهُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مَا كَانَ رَاجِيًا أَحَدَ أَمْرَيْنِ:
مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْكَشْفِ، أَوْ حُضُورِ الشُّهُودِ لِلْأَدَاءِ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُمْ بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْلَافَ الْمُدَّعِي أَحَلَفَهُ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَتًّا لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمَا.