هُوَ غَائِبٌ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا تُعَجِّلُ مِنْ إقْرَارِهِ بِقُوَّةِ الْهَيْبَةِ مَا يُغْنِي عَنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ.
وَالثَّانِي: التَّقَدُّمُ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ إذَا عَرَفَ مَكَانَهُمْ وَلَمْ يُدْخِلِ الضَّرَرَ الشَّاقَّ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّالِثُ: الْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَيُجْهِدُ رَأْيَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْحَالِ مِنْ قُوَّةِ الْإِمَارَةِ وَدَلَائِلِ الصِّحَّةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي الذِّمَّةِ كَلَّفَهُ إقَامَةَ كَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا قَائِمًا كَالْعَقَارِ حَجَرَ عَلَيْهَا فِيهَا حَجْرًا لَا يُرْفَعُ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ، وَرَدَّ اسْتِغْلَالَهَا إلَى أَمِينٍ يَحْفَظُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنْهُمَا.
فَإِنْ تَطَاوَلَتِ الْمُدَّةُ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ حُضُورِ الشُّهُودِ، جَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ مَعَ تَجْدِيدِ إرْهَابِهِ، فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَرَى فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ دُخُولِ يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَلِلنَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ اسْتِعْمَالُ الْجَائِزِ، وَلَا يَلْزَمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ أَجَابَ بِمَا يَقْطَعُ التَّنَازُعَ أَمْضَاهُ وَإِلَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا شُهُودٌ حُضُورٌ، لَكِنَّهُمْ غَيْرُ مُعَدَّلِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاظِرُ فِيهَا بِإِحْضَارِهِمْ وَسَبْرِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِدُهُمْ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ:
إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَأَهْلِ الصِّيَانَاتِ فَالثِّقَةُ بِشَهَادَاتِهِمْ أَقْوَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَرْذَالًا فَلَا يَقْوَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يُقَوَّى بِهِمْ إرْهَابُ الْخَصْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَوْسَاطًا فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِإِحْلَافِهِمْ إنْ رَأَى قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا.
ثُمَّ هُوَ فِي سَمَاعِ شَهَادَةِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: إمَّا أَنْ يَسْمَعَهَا بِنَفْسِهِ فَيَحْكُمُ بِهَا.
وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ إلَى الْقَاضِي سَمَاعَهَا لِيُؤَدِّيَهَا الْقَاضِي إلَيْهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا بِشَهَادَةِ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُ.
وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ سَمَاعَهَا إلَى الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ، فَإِنْ رَدَّ إلَيْهِمْ نَقْلَ شَهَادَتِهِمْ إلَيْهِ لَمْ يُلْزِمْهُمْ