وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ وَاضِحَ الْمَعَانِي وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ خَفِيِّ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِاجْتِمَاعِهَا فِيهِ؛ إمَّا بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَةٍ، وَإِمَّا بِاخْتِبَارٍ وَمَسْأَلَةٍ.
قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَضَاءَ الْيَمَنِ، وَلَمْ يَخْتَبِرْهُ لِعِلْمِهِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ وَصَّاهُ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَقَالَ:
"إذَا حَضَرَ خَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ" 1.
فَقَالَ عَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَمَا أَشْكَلَتْ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا، وَبَعَثَ مُعَاذًا إلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْيَمَنِ وَاخْتَبَرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ:
وَيَجُوزُ لِمَنْ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِي قَضَائِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ مَنِ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبِهِ، فَإِذَا كَانَ شَافِعِيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَصِيرُ فِي أَحْكَامِهِ إلَى أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَمِلَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ، وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنِ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ، فَمُنِعَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُنِعَ الْحَنَفِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ مِنَ التُّهْمَةِ وَالْمُمَايَلَةِ فِي الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، وَإِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ كَانَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ وَأَرْضَى لِلْخُصُومِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لَا تُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ، وَإِذَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِحُكْمٍ وَتَجَدَّدَ مِثْلُهُ مِنْ بَعْدُ أَعَادَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَقَضَى بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَضَى فِي الْمُشْرِكَةِ بِالتَّشْرِيكِ فِي عَامٍ، وَتَرَكَ التَّشْرِيكَ فِي غَيْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَكَذَا حَكَمْتَ فِي