الوجه الثالث: أن يقال: ما صححه بعض أهل العلم بالحديث مما رواه غير الشيخين فهو كثير جدًا، وقد يكون أكثر مما في الصحيحين، وهو متلقى بالقبول عند أهل العلم. ومن أجمع الكتب للأحاديث الصحيحة بعد الصحيحين موطأ الإمام مالك، وفي مسند الإمام أحمد من الأحاديث الصحيحة شيء كثير جدًا، وكذلك في السنن الأربع، وقد ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن الشافعي أنه قال: "ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابًا من موطأ مالك"، قال ابن كثير في كتابه "الباعث الحثيث": "قول الإمام الشافعي لا أعلم كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك، إنما قاله قبل البخاري ومسلم"، وقال السيوطي في شرح الموطأ: "الصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء"، قال الشيخ أحمد محمد شاكر: "وهذا غير صواب، والحق أن ما في الموطأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأن ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها، مما تحويه الكتب الأخرى". انتهى.
وقال أبو بكر بن داسه: "سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمَّنته هذا الكتاب، وجمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض". انتهى.
وذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن أبي علي منصور بن عبد الله الخالدي قال: "قال أبو عيسى -يعني الترمذي-: صنفت هذا الكتاب- يعني الجامع- فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم". انتهى.
وقد كان الحاكم أبو عبد الله، والخطيب البغدادي يسميان كتاب الترمذي "الجامع الصحيح"، وكان أبو علي ابن السكن والخطيب البغدادي يقولان في سنن النسائي إنه صحيح، وفي هذا القول والذي قبله تساهل؛ لأن جامع الترمذي وسنن النسائي ليس كل أحاديثهما صحيحة، بل فيهما الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، ففي إطلاق اسم الصحيح عليهما نظر، وقد يقال إن هذا الإطلاق من باب التغليب؛ لأن أكثر أحاديثهما صحاح وحسان، فيصح إطلاق اسم الصحيح عليهما من هذه الحيثية، والله أعلم.