أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا. ثم انصرف فجلس إلى السفرة وتناول المنديل، وقال: "باسم الله خير الرازقين"، وكشف عن السفرة، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الآخر ثمرات، وعلى الآخر خمس رمانات.
فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون: وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصِّدِّيقة. فقال عيسى، عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة، فقال له: كن. فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يُمدكم منه ويَزدكم، فإنه بديع قادر شاكر.
فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن تُرينا آية في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى، عليه السلام، على السمكة، فقال: يا سمكة، عودي بإذن الله حية كما كنت. فأحياها الله بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية، تَلَمَّظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلما رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة، عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.
فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها، ثم نحن بعد فقال عيسى: معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها، خافوا أن يكون نزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، فيكون مَهْنَؤُها لكم،