«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (?) , فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كلِّ بابٍ من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقاً، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حُكْمٍ وسائرهم لم يفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم، وأخطئوا هم , لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خيرٌ من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن، ثم هذا يتعدَّد في مسائل عديدة؛ لأن من يقول " قول الصَّحابي ليس بحُجَّة" يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كلِّ مسألةٍ قال فيها الصَّحابي قولاً، ولم يخالفه صحابيٌّ آخر، وفات هذا الصواب الصَّحابة، ومعلومٌ أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العدَّ والإحصاء، فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العدَّ والإحصاء مما أخطئوا فيه؟ (?).
ثالثاً: إنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- انفردوا عن غيرهم بأنهم كانوا أبرَّ الأُمَّة قلوباً, وأعمقهم علماً, وأقلِّهم تكلَّفا، فقد خصّهم الله بتوقَّد الأذهان وفصاحة اللسان، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزةٌ في فِطَرِهم وعقولهم , وقد حضروا التنزيل، وسمعوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه مباشرة، وشاهدوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث, وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص ,وهم أعلم بالتأويل , وأعرف بالمقاصد، وأقرب عهداً بنور النبوة، وأكثر تلقياً من تلك المشكاة النبوية , لذلك كان اجتهادهم أقرب إلى الصواب, وأبعد عن الخطأ , فلزم العمل باجتهادهم دون اجتهاد غيرهم (?).