وإذا كان الاجتهاد في إثبات متعلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم أخذَ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى ذلك المحل، فهذا يعني لزوم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ محلٍّ، فأحوال الضعف غير أحوال القوة، وأحوال الاضطرار وعموم البلوى غير أحوال السعة والاختيار.

ومما ذكره إمام الحرمين تخريجاً على هذا الأصل: " إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله ولم يجدو إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة في حقِّ الناس كافَّة تُنَزَّل منزلة الضرورة في حقِّ الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط المَيْتَة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة." (?).

كما يستلزم أخذُ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كلِّ محلٍّ مراعاةَ اختلاف العوائد، فقد جرت سُنَّة الله تعالى على أن عوائد الناس تختلف باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم.

قال ابن خلدون (?): " إن أحوال العالَم والأمم وعوائدهم ونِحَلَهُم لا تدوم على وتيرةٍ واحدةٍ ومنهاجٍ مستقر، إنما هو اختلافٌ على الأيام والأزمنة، وانتقالٌ من حالٍ إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} (?) [غافر: 85].

وبناءً على هذا المعنى قرَّر الفقهاء قاعدة: " لا ينكر تغيُّر الاجتهاد بتغيُّر الزمان والمكان والحال " (?).

وعقد ابن القيم - رحمه الله - فصلاً ماتعاً في كتابه " إعلام الموقعين " (?) بعنوان:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015