به ثم غدر؛ أي: أعطى يمينه به؛ أي: عاهد عهدًا، وحلف بالله على ذلك، ثم نقضه. ولا شك أن الغدر من أكبر الصفات المذمومة، والمفاسد العظيمة، وليس من أخلاق المؤمن الغدر، بل الوفاء بالعهد، وإمضاؤه؛ لأن في نقضه إخلالًا بنظام الحياة العامة، والقوانين الدستورية، ويفسد على المرء تدبيره لمصلحته نفسه، وغيره، وإضرارًا بمن عاهده، ثم نقض عهده، فلذلك جاء في القرآن الحكيم الحث على إمضاء العهود، والوفاء بها، والتزامها، وعدم نقضها أيا كانت، ولو مع قوم غير مسلمين؛ بشرط أن لا يُخلُّوا بشروطها بالإتيان بما ينافيها مما يضر بصالح المعاهد، ويضعفه، ويحل عزائمه، ويقوى أعداءه عليه. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
[المائدة:1] وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34] وروي البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان" 1 وما أصعب هذا التشهير بالغادر على رؤوس الأشهاد يوم القيامة! حيث العالم كله مجتمع، ويرون حالته، وما هو عليه من التشنيع، والخزي، والتوبيخ، والتعذيب. ولا ريب أن هذه الحالة،هي أفظع حالة يراها الخلق؛ لأن الغدر أكبر جريمة ترتكب، وصاحبه مهان، ذليل، حقير، تستنفر منه الطباع الحساسة، وتستقبحه العقول السليمة الراقية.
وأصبح في عصرنا الحاضر الغدر منتشرًا، فلا تخلوا عائلة منه، فإن قيِّم العائلة يعطي زوجته، وأولاده، أو أخته، أو أحد أقاربه العهود، والمواثيق، والأيمان الغليظة أنه سيعطي فلانًا كذا، وفلانة كذا، ويكتب لفلان كذا، ويحيى فلانا كذا، ثم يصبح ثاني الأيام، أو بعد أيام، أو أشهر، وينقض العهد، ويعبث بالأيمان، والمواثيق، ولا يعبأ بما هدده الشارع به، وأمره بالنزاهة، والوفاء به، وكذا تجد الغدر في القرى، والأرياف، سواء كانت قريبة إلى المدن العامرة منتشراً، وكذلك في المدن الكبيرة، والصغيرة، وكلما ارتقت أهل المدينة في المدنية، والترفه، والتأنق الحديث كلما ازداد الغدر، وتنوع، واختير له أساليب جديدة مموهة، وآلات اصطناعية مشوهة، حتى صار