ويستنبط من إجابة مالك لسائله مرة بعد أخرى، أنه لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُ فَرْضَ المَسَائِلِ وإن كان لا يكثر منها بل كان يرى أن تفريغ المسائل مما يمدح به وأن الفقه فيه مقصور على أهل المدينة والكوفة، فَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ يُخَالِفُونَكَ فِيهَا ... فَقَالَ: «وَمَتَى كَانَ هَذَا الشَّأْنُ بِالشَّامِ؟ إِنَّمَا هَذَا الشَّأْنُ وَقْفٌ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ وَالكُوفَةِ» ويُعلِّقُ ابن عبد البر بقوله: «لِأَنَّ شَأْنَ المَسَائِلِ بِالكُوفَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ» (?).
ولا شك أنَّ أبا حنيفة لم يبتدع فرض المسائل، بل كانت موجودة قبل ذلك بدلالة أقوال الصحابة والتابعين في كراهتها مما سنتناوله بعد قليل ولكن أبا حنيفة هو الذي أكثر منها. يقول الحجوي: «أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ الذِي تَجَرَّدَ لِفَرْضِ المَسَائِلِ وَتَقْدِيرِ وُقُوعِهَا وَفَضِّ أَحْكَامِهَا، إِمَّا بِالقِيَاسِ عَلَى مَا وَقَعَ، وَإِمَّا بِانْدِرَاجِهَا فِي العُمُومِ مَثَلاً، فَازْدَادَ الفِقْهُ نُمُوًّا وَعَظَمَةً، وَصَارَ أَعْظَمَ مِنْ ذِي قَبْلٍ بِكَثِيرٍ. قَالُوا: إِنَّهُ وَضَعَ سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ» (?). ولذلك قال خصومه مُشنِّعِينَ عَلَيْهِ: «[هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا لَمْ يَكُنْ وَأَجْهَلُهُمْ بِمَا قَدْ كَانَ]» (?) (*).
وذكر ابن عبد البر عن ابن جرير الطبري «أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ تَحَامَوْا حَدِيثَ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَجْلِ غَلَبَةِ الرَّأْيِ وَتَفْرِيعِهِ الفُرُوعَ وَالمَسَائِلَ فِي الأَحْكَامِ» (?).
والفقه التقديري كان منار خلاف بين العلماء، والكارهون له هم امتداد لمن كرهه من الصحابة والتابعين.