«عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ الذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مَا مِنْ إِمَامٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ قَالَ بِالرَّأْيِ، وَمَا مِنْ إِمَامٍ مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ تَبِعَ الأَثَرَ، إِلَّا أَنَّ الخِلَافَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ فِي المَبْدَأِ، لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الجُزْئِيَّاتِ» (?).
5 - وهذا الرأي الذي تستعمل كلتا المدرستين لم يكن محددًا بصورة معينة فهو أحيانًا سنة، وأحيانًا مصلحة مرسلة. أو قياس، أو عرف، أو غير ذلك يوحى إليهم به، ويهديهم إلى فطرة سليمة، وعلم باللغة، وإيمان عميق، ومعرفة بالروح الإسلامي في التشريع، فابن القيم يفسر الرأي الذي أثر عن الصحابة والتابعين بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب. مما تتعارض فيه الأمارات (?). ومن قبله يصف ابن عبد البر معظم التابعين في مختلف الأمصار بالرأي، فيقول: «وَ [مِمَّنْ] حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَأَفْتَى مُجْتَهِدًا رَأْيَهُ وَقَايِسًا عَلَى الْأُصُولِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا مِنَ التَّابِعِينَ: فَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ...» (?).
6 - أنَّ كُلاًّ من المدرستين في جمعها فروع الفقه مما أفتى به الصحابة وما خرجته على المحفوظ، قد اتجهت إلى الواقع، ولم يكن لها اتجاه إلى فرض المسائل أو تقديرها قبل وقوعها لاستنباط حكم لها.
7 - أن البيئة التي نشأت فيها المدرستان كانت مختلفة، فصبغت فقه كل منهما بصيغتها، وأثرت في بعض صور الاستنباط عندهما. فالمدينة قد احتفظت دون شك بالكثير من التقاليد الإسلامية التي كانت شائعة في عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين، وأن هذه التقاليد لم