ونبتغي من هذا الاتجاه أن نتلمس الجانب الخلقي والنفسي الذي صدر عنه فقه المحدثين، وأن توضح ملاحظتهم له عند حكمهم على الأفعال الإنسانية المختلفة، وكيف أن هذه الأحكام كانت تختلف باختلاف النية والباعث النفسي من جهة، وبمآلات الأفعال وصيرورتها من جهة أخرى، وكيف كانت تخضع لسلطان الدين والتقوى في كل الأحوال.
إن نظرة المحدثين للفقه، تمثل الاتجاه الديني، والتصور الإسلامي للحياة ووظيفتها، هذا الاتجاه الذي لا ينسى، وهو يقرر الضوابط للسلوك الإنساني في الحياة أن يعد الإنسان أولاً، وأن يثير في نفسه الدوافع التي تحثه على تقبل هذه الضوابط، والرغبة في تطبيق الأحكام التي يكلف بها، وأن يطلق قوى الخير الكامنة فيه، عن طريق الترغيب والترهيب، والتذكير الدائب بأن هذه الحياة التي نعيشها ليست كل شيء، ولن تكون خاتمة المطاف، بل هي لن تعدو أن تكون ميدانًا للعمل، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، ويؤكد هذا التصور الإسلامي أن حياة الإنسان ليست إلا فترة مرحلية، وأن الموت لا ينهي الإنسان، وإنما تنتهي به مرحلة من مراحل تطوره، لتبدأ بعده مرحلة أخيرة لها سماتها الخالدة.
ويبين الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - في آيات كثيرة المراحل التي يمر بها الإنسان منبهًا على أنها دليل على حتمية الحياة الآخرة، ومن ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ