والكلام الجامد البارد، والزحاف القبيح المستشنع، واللحن الظاهر المستبشع، وأشهد أنه عن درجه أمثاله غيرُ نازل ولا واقع، وأعرف أنه مليح الشعر غيرَ مدافَع، غير أني مع هذه الأوصاف الجميلة لا أبرِّئه من نهب وسرقة، ولا أرى أن أجعله وأبا تمام الذي كان ربَّ المعاني ومسلم بن الوليد وأشباههما في طبقة، ولا ألحقه في عذوبة الألفاظ وسهولتها، ورشاقة المعرض، ومجانبة التصنع والتكلف بالبحتري، ولا أقيسه في امتداد النفس وعلم اللغة، والاقتدار على ضروب الكلام، وتصوّر المعاني العجيبة، والتشبيهات الغريبة والحكم البارعة، والآداب الواسعة بابن الرومي، ولا أتهالك في مدحه تهالك من يتعصّب له تقليداً، ويغلو فلا يجعل بينه وبين هؤلاء الفضلاء أمداً بعيداً، ولا أطعن أيضاً في دينه ونسبه، ولا أذمه لاعتقاده ومذهبه، وكيف يسوغ لي أن أثلِبَه إلحاده، أو أعيبه لسقوط آبائه وأجداده، وأنا أتحقق أن أكثر من يُستشهد بأشعارهم المشركون والكفار والمنافقون والفجار، ومنهم اللُّكْن والفصحاء والهجناء والصُّرَحاء.
والأدب يجعل الوضيع في نسبه رفيعاً، كما أن الجهل يُصَيّر الرفيع في منصبه وضيعاً، والمتنبي كان يفتخر بأدبه لا بِنَسبه، ويعتَدّ بفضله لا بأهله، ويتطاول على أهل زمانه بفصاحة لسانه، وبِضرابه وطِعانه، لا بتوحيده وإيمانه، ولولا أنه كان يجحد فضائل من تقدَّمه من الشعراء، وينكر حتى أسماءهم في محافل الرؤساء،
ويزعم أنه لا يعرف الطائيين وهو على ديوانيهما يُغير، ولم يسمع بابن الرومي وهو من بعض أشعاره يمير، ويسبّهم ونظرائهم إذا قيل في أشعارهم إبداع، ويعيبهم مني ما أنشد لهم مصراع لكان الناس يغضُون عن معايبه، ويُغطَون على مساويه ومثالبه، ويَعدونه كسائر الشعراء الذين لا ينبش عظامهم إنسان، ولا يجرى بذمّهم وذامهم لسان.
ولقد حدّثني من أثق به أنه لما قتل المتنبي في طريق الأهواز وجُد في خرج كان