من شعر ممن لا يكاد يجيل في الأدب قِدحا، ولا يعرف هجاء ولا مدحاً؛ فهو يحكم على قائله بالسبق والتفخيم، والإجلال والتعظيم، وليس يدري إن سألته هل ما رواه سليم اللفظ أو مختله، صحيح المعنى أو معتلّه، وهل ترتيبه مستحسن أو مستهجن،
وتقسيمه مطبوع أو مصنوع، ونظامه مستعمل أو مسترذل، وكلامه مستعذب أو مستصعب، وهل سبقه إلى ذلك المعنى أحد قبله، أو هو مبتدِع، أو أورد نظيره سواه أو هو مخترع استبدعوا كلامه، واتبعوا أحكامه، واعتمدوا على الاعتقاد دون الانتقاد، وقبلوه بالتقليد لا بالاختيار، وقابلوه بالامتثال دون الاعتبار والاختبار.
ثم إن بيّنت لهم عَوار ما رَوَوْه وزلله، وخطأ ما حكَوْه وخطله التزموا نُصْرة خطئه واقفين مواقف الأعتذار، ومائلين عن طريقة الانتصاف إلى الانتصار، وليست هذه الخصلة من خصال الأدباء الذين هذبتهم الآداب فصاروا قدوة وأعلاماً، ودرّبتهم العلوم فأصبحوا بين الناس قضاةً وحكاماً، إنما يذهب في مدح الكتاب والشعراء مذهب التقليد من يكون في علومه خفيف البضاعة، قليل الصناعة، صِفَر وِطاب الأدب، ضيّقَ مجال الفضل، قصيرَ باع الفهم، جديبَ رباع العقل، فأما من رزق من المعرفة ما يستطيع أن يميز به بين غثّ الكلام وسمينه، ويفرق بين سخيفه ومتينه، وأوتي من الفضل ما يحسن أن يَعدل به في القضية غير عادل عن الإنصاف، ويحكم بالسوية غير مائل إلى الإسراف والإجحاف، فالأولى به ألا ينظر إلى أحد إلا بعين الاستحقاق والاستيجاب، ولا يحل أحداً من رتب الجلالة إلا بقدر محله من الآداب، ولا يُعظم الجاهليّة لتقدمهم إذا أخّرتهم معايب أشعارهم، ولا يستحقر المحدثين لتأخرهم إذا قدمتهم محاسن آثارهم، ويطرح الاحتجاج بالمحال طرحاً، ويضرب عن استشعار الباطل صفحاً، ويُجلّ من يَشْهد بفضائله شهودٌ عدول، ويُنزل مَن كلامُه عند التأمل منحولٌ معلول.
ولقد جرى يوماً حديث المتنبي في بعض مجالس أحد الرؤساء، فقال أحد حاملي