وأما رواية جابر، فقد رواها مسلم. قال: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق أخبرنا، وقال أبو بكر حدثنا، سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. زاد إسحاق قال سفيان: لو كان شيئاً يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن". اهـ. رواية مسلم.

أقول: الظاهر في هذه الرواية أن هذه الجملة الأخيرة ليست من كلام جابر، بل هي من كلام سفيان. ويحتمل أن تكون من كلام جابر. ولكن قد أخرجه مسلم والبخاري أيضاً وغيرهما من روايات أخرى فلم يذكروها في كلام جابر. وإنما الذي فيه في بعض الروايات عند مسلم: "فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا".

فكلا الصحابيّين ذكرا أن هذا بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم ينه عن ذلك، وليس في كلامهما الاحتجاج بتقرير الله تعالى، بل الاحتجاج بتقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولعلّ الذي غرّ بعض أهل العلم، ما صنعه صاحب (العمدة) إذ اختصر حديث مسلم، وأدرج كلمة سفيان في الحديث (?)، ولم يكن له أن يفعله. وغفل ابن دقيق العيد فلم يشر إلى ذلك. وشرح الحديث على حاله، فقال: "استدلال جابر بتقرير الله تعالى غريب، وكان يحتمل أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول. لكنه مشروط بعلمه بذلك، ولفظ الحديث لا يقتضي إلاّ الاستدلال بتقرير الله تعالى". اهـ.

ومن هنا كان الصواب في المسألة، أن تقرير الله في زمن الوحي يكون حجة بشرط أن يبلغ الفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحتجّ بذلك على ما لم يبلغه. وكلام الشوكاني في ذلك محرر جيد، وذلك حيث يقول في نيل الأوطار، في شرح هذا الحديث: "فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم من الأحكام، لأنه لو كان ذلك الشيء حراماً لم يقررا عليه، لكن بشرط أن يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -" (?).

وبهذا يتبيّن ما في كلام ابن تيمية رحمه الله، السابق ذكره، من المؤاخذة. ويتبيّن أيضاً أن إعراض الأصوليين عن هذا النوع إنما هو لعدم استقلاله بالاحتجاج. والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015