فأجاب رحمه الله تعالى، وقال:
الأجل مقدر من الأزل، لا يزيد ولا ينتقص، ولا يتقدم ولا يتأخر، تظاهرت على ذلك جمل من الآيات الشريفة، والأحاديث الصحيحة، وأقاويل العلماء.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً}.
وقوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، وقوله تعالى: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا}، وقوله جلت عظمته: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ}.
ومن الأحاديث الصحيحة ما رواه ابن مسعود: أن أم حبيبة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قد سألت الله عز وجل لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئاً قبل حله، أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله تعالى أن يعيذك من عذاب النار أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل.
ومنها ما روي أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الملك على النطفة
بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي رب، أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص.
ومن طريق آخر: ثم يخرج الملك فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص.
وأما ما روي في الصحيح. من قوله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في عمره، فليصل رحمه، فقد أجاب العلماء عنه بأجوبة أصحها: أن هذه الزيادة بركة في عمره بالتوفيق والطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها من الضياع في غير ذلك.
والثاني: أنها بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة، وفي اللوح المحفوظ، فيظهر لهم أو في اللوح، أن عمره ستون سنة، إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون. وقد علم الله ما سيقع له من ذلك علماً أزلياً، وهو معنى قوله: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}.
وبالنسبة إلى علم الله تعالى، وما سبق به قدره، لا زيادة ولا نقص، بل هما مستحيلان.
والثالث: أن المراد بقاء ذكره الجميل، فكأنه لم يمت.
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى}، فذكر المفسرون فيها وجوهاً: أحدهما: أن الأجل الأول أجل الموت، والأجل المسمى عنده أجل القيامة.
وثانيها: أن الأول ما بين الخلق إلى الموت، والثاني ما بين الموت إلى البعث؛ فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لمدتها.
والثالث: أن الأول النوم، والثاني الموت.
والرابع: أن الأول لمن مضى، والثاني لمن بقي ولمن يأتي.
وأما قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}، ففيه أقاويل كثيرة منها:
أن المعني بقوله: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ}؛ أي يوقعه بأهله في وقته، فإنه إذا وقع انقضى، فيسمى ذلك محواً، ومعنى قوله: {وَيُثْبِتُ}؛ أي يؤخره إلى وقته.
ومنها: أن معنى {يَمْحُو}: ينسخ ما يستصوب نسخه من الأحكام، ويثبت ما تقتضي حكمته إبقاؤه فيبقيه.
ومنها: أن معناه: يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها.
ومنها: أن المعنى يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، مثل: أكلت، وشربت، ونحو ذلك من المباحثات، ويثبت ما يقتضي ثواباً أو عقاباً، وقيل يمحو قرناً، ويثبت آخر. وقيل غير ذلك من الأقاويل التي يطول ذكرها.
وأما ما روي عن ابن عباس من أن لكل أحدٍ أجلين، أحدهما إلى الموت، والآخر من الموت إلى البعث، فإن كان براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجراً، قاطعاً للرحم، نقص من أجل العمر، وزيد في أجل البعث، فقد نقل عنه أيضاً ما يخالف ذلك، وهو أنه قال: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الخلق والخلق والسعادة والشقاوة والأجل والرزق.
وعن مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان، فيمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الحياة والموت والسعادة والشقاوة.
وأما تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}، فالمعنى: ولا ينقص من عمر المعمر، على أن الضمير لمطلق المعمر، لا لذلك المعمر بعينه، كما يقال: درهم ونصف، فإن المراد: ونصف درهم آخر، لا نصف ذلك الدرهم المتقدم ذكره، أي، لا ينقص من عمر شخص من أعمار أضرابه، بمعنى ولا يحصل عمر شخص ناقصاً عن عمر أمثاله.
وقد ارتكبنا في هذا الجواب بعض الإطناب إسعافاً للسائل بما التمس من بسط القول، وإلا فالوصية من أشياخنا بالاختصار في الإفتاء مانعة من الزيادة. انتهى،
وفي هذا القدر كفاية والله تعالى أعلم.
وأقول: وقد تظاهرت الأحاديث والآثار عندي على أن زيادة العمر ونقصه بالنسبة إلى ما كتب في اللوح المحفوظ، أو برز إلى الملائكة، لا بالنسبة إلى علم الله الأزلي.
والعجب من الوالد كيف سلم الحكم بالزيادة والنقص من حيث البركة وفعل الطاعات، ومنعه من حيث المقدار، وعلل المنع بأنه متعذر من الأزل، وعلم الله أزلي لا يتغير، وليس ذلك خاصاً بهذه المسألة، فإن كل واقع في الكون إذا نظر إليه من هذه الحيثية لم يقبل التغيير، فإن علم الله تعالى بجميع الأشياء أزلي، وإنما محل النزاع بالنسبة إلى صفة الفعل الحادثة، التي هي الخلق، لا إلى هذه الذات القديمة، التي هي العلم، فطاعات العباد وعصيانهم وسائر أفعالهم، إذا نظر إليها من حيث ما علم الله تعالى في الأزل وقوعه منهم، فإنه لا يقبل الزيادة والنقصان، وكذلك أمر الرزق والسعادة والشقاوة، وكل شيء. وإذا نظر إلى ذلك من حيث خلق الله إياه، الذي هو من صفات الأفعال، قبل التغيير والتبديل، فلهذا قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في دعائه: اللهم إن كنت كتبتني عندك شقياً فامحني، واكتبني عندك سعيداً، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، فانظر إلى قوله: إن كنت كتبتني عندك شقياً ولم يقل: إن علمتني شقياً عندك.