فالأول من معنى ألوهيته، والثاني من معنى ربوبيته؛ فإن الإله هو الذي تألهُه القلوب محبةً، وإنابةً، وإجلالًا، وإكرامًا، وتعظيمًا، وذُلًّا، وخضوعًا، وخوفًا، ورجاءً، وتوكلًا. والربُّ هو الذي يَرُبُّ عبده، فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى مصالحه، فلا إله إلا هو، ولا ربَّ إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه، كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله عن نبيه شُعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8، 9]، وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيَيِ التوحيد، اللذين لا سعادة للعبد بدونهما البتة.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئًا هو أحب إليهم ولا أقرُّ لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يُعطِهم في الدنيا شيئًا خيرًا لهم (?)،