وهكذا السكرانُ، سببُ السُّكْرِ مقدورٌ له، يُمْكِنُه فعلُه وتركُه، فإذا أتى بالسبب خَرَج الأمرُ عن يده، ولم يملك نفسه عند السُّكرِ، فإذا كان السكر الذي هو مفَرِّطٌ بتعاطي أسبابه ويَقْدِرُ على ملك نفسه باجتنابها، قَدْ عَذَر الصحابةُ وغيرُهم من الفقهاء صاحبَه إذا طلَّق في هذه الحال، مع كونه غير معذورٍ في تعاطي سببه = فَلأَنْ يُعْذَر سكرانُ الغضبِ الذي لم يُفَرِّطْ- مع شدة سُكْرِه على سُكْرِ الخمر- أولى وأحرى.
الوجه الحادي عشر: وهو أنَّ مِن الناسِ مَنْ إذا لم يُنْفِذْ غضبَه قَتَلَه غَضبُه، ومات أو مرض أو غُشِيَ عليه، كما يُذكَر عن بعض العرب أن رجلًا سبَّهُ، فأراد أن أن يَرُدَّ على السابِّ (?)، فأمسك جليسٌ له بيده على فمه, ثم رفع يده لما ظَنَّ أن غضبه قد سَكَن، فقال: قتلتني! ردَدْتَ غضبي في جوفي!. ومات من ساعته (?).
فإذا نفذ مثلُ هذا غضبَه بقتلٍ أو ظلمٍ لغيره، لم يُعْذَرْ بذلك، كالسكران، وأما إذا نفذ بقولٍ فإنه يمْكِنُ إهدارُ قولِه، وأنْ لا يَتَرتَّب أثرُه عليه، كما أهدر اللهُ سبحانَه دعاءَه ولم يُرتِّبْ أثره عليه، ولم يستجِبْة له.
ولهذا ذهب بعض, الفقهاء إلى أنه لا يُجْلَدُ بالقذف في حال الخصومة والغضب، وإنما يُجْلَدُ به إذا أتى به اختيارًا وقصدًا لقذفه (?)،