والقرآن ينزل، فلو كان شيء يُنهى عنه لنهى عنه القرآن" (?)، وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين:
أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يَحْرم منها إلّا ما حَرَّمه اللَّه على لسان رسوله.
الثاني: أنَّ علم الرب تعالى بما يفعلون (?) في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوًّا عنه استصحابًا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرًا لحكم الاستصحاب، ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزُّرُوع التي تُداس بالبقر، من غير أمر لهم بغسلها، وقد علم -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها لا بدّ أن تبول وقت الدياس، ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأبعار الغنم، وقد علم أن دُخانَها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بدّ: طهارة ذلك، أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس.
ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتدَّ الحرُّ (?)، ولا يقال في ذلك: إنه ربما لم يعلمه، لأن اللَّه قد عَلِمه وأقرَّهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع.
ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرّض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مَسَاغ له في الإسلام حين الدخول فيه (?).