وأيضًا فإن هذا يُوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعًا لأهل المدينة (?) فيما يعملون به، وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء، فإن عملهم إذا قُدِّم على السنة فلأن يُقدَّم على عمل غيرهم أولى، وإن قيل: إن عملهم نفسه سنة لم يحل لأحد مخالفتهم، ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار أن لا يَعْملوا بما عرفوه (?) من السنة وعَلَّمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة، وأنهم لا يعملون إلّا بعمل أهل المدينة، بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك، وقد عزم عليه، وقال له: قد تفرَّق أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البلاد، وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم (?)، وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولم يقل قط في "موطئه" ولا غيره لا يجوز العمل بغيره، بل يخبر إخبارًا مجردًا أن هذا عمل أهل بلده، فإنه -رضي اللَّه عنه- وجزاه عن الإسلام خيرًا ادَّعى إجماع أهل المدينة في نيِّف وأربعين مسألة.
ثم هي ثلاثة أنواع (?):
أحدهما: لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم.
والثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه.
والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة انفسهم، ومن ورعه رحمه اللَّه لم يقل: إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحلّ خلافه.
وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إمّا أن يراد به القسم الأول، أو هو والثاني، أو هما والثالث، فإن اريد الأول فلا ريب أنه حجّة يجب اتّباعه، وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله؟ وأيضًا فأحق عمل أهل المدينة أن يكون حجة العمل القديم الذي كان في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين، وهذا كعملهم الذي كأنه مُشاهد بالحس ورأي عين في (?) إعطائهم أموالهم التي