وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ إبْطَالِ الْحِيَلِ: إنْ احْتَالَ فِي إجَازَةِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالَ: اسْتَأْجِرْهَا إلَى دِمَشْقَ بِكَذَا، وَمِنْ دِمَشْقَ إلَى الرَّمْلَةِ بِكَذَا، وَمِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ بِكَذَا، جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى لِكُلٍّ مِنْ الْمَسَافَتَيْنِ أُجْرَةً مَعْلُومَةً فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ.
قُلْت: وَلَكِنْ لَا تَنْفَعُهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ إذَا انْقَضَى غَرَضُهُ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْأُولَى، وَيَبْقَى عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمًا لَهُ فِيمَا وَرَاءَهَا، فَتَصِيرُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى مِصْرَ فَانْقَضَى غَرَضُهُ فِي الرَّمْلَةِ، فَمَا الَّذِي أَفَادَهُ تَعَدُّدُ الْعُقُودِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الْحِيلَةِ وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَيْعُ الْمَقَاثِي وَمَا يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا] : الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقَاثِي وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا كَمَا تُبَاعُ الثِّمَارُ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ تَلَاحُقُ الْمَبِيعِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ بَيْعِ التُّوتِ وَالتِّينِ وَسَائِرِ مَا يَخْرُجُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، هَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، وَعَلَيْهِ تَقُومُ مَصَالِحُ بَنِي آدَمَ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَمَنْ مَنَعَ بَيْعَ ذَلِكَ إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً فَمَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ هُوَ فِي غَايَةِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يَنْضَبِطُ وَلَا مَا هِيَ اللُّقَطَةُ الْمَبِيعَةُ أَهِيَ الْكِبَارُ أَوْ الصِّغَارُ أَوْ الْمُتَوَسِّطُ أَوْ بَعْضُ ذَلِكَ؟ وَتَكُونُ الْمَقْثَأَةُ كَبِيرَةً جِدًّا لَا يُمْكِنُ أَخْذُ اللُّقْطَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَحْدُثُ كُلَّ يَوْمٍ لُقَطَةٌ أُخْرَى تَخْتَلِطُ بِالْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُهَا مِنْهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ دَوَابَّ الْمِصْرِ كُلَّهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ مِنْ الْقَطَّافِينَ ثُمَّ يَقْطَعَ الْجَمِيعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَيُعَرِّضَهُ لِلتَّلَفِ وَالضَّيَاعِ، وَحَاشَا كُلَّ الشَّرَائِعِ - بَلْ غَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِعِ - أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ هَذَا، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ الْأَغْلَاطِ الْوَاقِعَةِ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْأُمَّةِ مَا هُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَيْهِ ثُمَّ أَبَاحَ لَهُمْ نَظِيرَهُ؟ فَإِنْ كَانَ هَذَا غَرَرًا فَبَيْعُ الثِّمَارِ الْمُتَلَاحِقَةِ الْأَجْزَاءِ غَرَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَرَرًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كِلَيْهِمَا لَيْسَ غَرَرًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا؛ وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ، فَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى اللُّغَةِ طُولِبَ بِالنَّقْلِ، وَلَنْ يَجِدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ شَاهِدٌ بِخِلَافِهِ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ غَرَرًا، وَإِنْ ادَّعَاهُ عَلَى الشَّرْعِ طُولِبَ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ بُلِيَ بِمَنْ يَقُولُ هَكَذَا فِي