وَرَسُولِهِ وَنَصِيحَةً لِلْأُمَّةِ، وَقُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِمْ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهُمْ يَنْقُلُونَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ غَضًّا طَرِيًّا لَمْ يَشُبْهُ إشْكَالٌ، وَلَمْ يَشُبْهُ خِلَافٌ، وَلَمْ تُدَنِّسْهُ مُعَارَضَةٌ، فَقِيَاسُ رَأْيِ غَيْرِهِمْ بِآرَائِهِمْ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ.
فَصْلٌ:
[النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ]
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ: الرَّأْيُ الَّذِي يُفَسِّرُ النُّصُوصَ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، وَيُقَرِّرُهَا وَيُوَضِّحُ مَحَاسِنَهَا، وَيُسَهِّلُ طَرِيقَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ عَبْدَانُ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لِيَكُنْ الَّذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ، وَخُذْ مِنْ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَك الْحَدِيثَ، وَهَذَا هُوَ الْفَهْمُ الَّذِي يَخْتَصُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وَمِثَالُ هَذَا رَأْيُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْفُرُوضِ، وَرَأْيُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ، وَرَأْيُهُمْ فِي تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَرَأْيُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ جَرِّ الْوَلَاءِ، وَرَأْيِهِمْ فِي الْمُحْرِمِ يَقَعُ عَلَى أَهْلِهِ بِفَسَادِ حَجِّهِ وَوُجُوبِ الْمُضِيِّ فِيهِ وَالْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ مِنْ قَابِلٍ، وَرَأْيُهُمْ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا وَأَطْعَمَتَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَرَأْيُهُمْ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْغُرُوبِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَرَأْيُهُمْ فِي الْكَلَالَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: إنِّي سَأَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا مَعَ مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي "، وَكَيْفَ يُجَامِعُ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي تَقَدَّمَ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّأْيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَأْيٌ مُجَرَّدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ خَرْصٌ وَتَخْمِينٌ، فَهَذَا الَّذِي أَعَاذَ اللَّهُ الصِّدِّيقَ وَالصَّحَابَةَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: رَأْيٌ مُسْتَنِدٌ إلَى اسْتِدْلَالٍ وَاسْتِنْبَاطٍ مِنْ النَّصِّ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ نَصٍّ آخَرَ مَعَهُ،