عَنْهَا: «فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ» وَفِي لَفْظٍ: «صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ صَرِيحَةٌ لَا مُعَارِضَ لَهَا؛ فَرُدَّتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي أَوْتَرَ بِالتِّسْعِ وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ، وَسُنَنُهُ كُلُّهَا حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ السَّائِلَ لَهُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِأَنَّهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الْوِتْرِ، وَأَمَّا السَّبْعُ وَالْخَمْسُ وَالتِّسْعُ وَالْوَاحِدَةُ فَهِيَ صَلَاةُ الْوِتْرِ، وَالْوِتْرُ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ الْمُنْفَصِلَةِ مِمَّا قَبْلَهَا، وَلِلْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ الْمُتَّصِلَةِ، كَالْمَغْرِبِ اسْمٌ لِلثَّلَاثِ الْمُتَّصِلَةِ، فَإِنْ انْفَصَلَتْ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ بِسَلَامَيْنِ كَالْإِحْدَى عَشْرَةَ كَانَ الْوِتْرُ اسْمًا لِلرَّكْعَةِ الْمَفْصُولَةِ وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَهُ مَا صَلَّى.» فَاتَّفَقَ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ، وَصَدَّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ لَيْسَ إلَّا، وَإِنْ حَصَلَ تَنَاقُضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ، أَوْ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثَانِ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا فَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَضَادَّ هُنَاكَ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُؤْتِي مَنْ يُؤْتِي هُنَاكَ مِنْ قَبْلِ فَهْمِهِ وَتَحْكِيمِهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوَاعِدَ الْمَذْهَبِ عَلَى السُّنَّةِ؛ فَيَقَعُ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
فَصْلٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَتْوَى، وَاخْتِلَافِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالنِّيَّاتِ وَالْعَوَائِدِ
الشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ
هَذَا فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ جِدًّا وَقَعَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْجَبَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْبَاهِرَةَ الَّتِي فِي أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ لَا تَأْتِي بِهِ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ