إنْ شَاءَ، وَيُبْقِيهَا عَلَيْهِ إنْ شَاءَ، كَمَا سَلَبَ النَّارَ قُوَّةَ الْإِحْرَاقِ عَنْ الْخَلِيلِ، وَبِاَللَّهِ الْعَجَبُ، أَتَرَى مَنْ أَثْبَتَ الْأَسْبَابَ وَقَالَ إنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا أَثْبَتَ خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ؟ ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فَغَابَ عَنْهُمْ فِقْهُ الْآيَةِ وَفَهْمُهَا، وَالْآيَةُ مِنْ أَكْبَرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْخِطَابُ بِهَا خَاصٌّ لِأَهْلِ بَدْرٍ. وَكَذَلِكَ الْقَبْضَةُ الَّتِي رَمَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْصَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الرَّمْيُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُ، وَأَثْبَتَ لَهُ الرَّمْيَ الَّذِي هُوَ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ وَهُوَ الْخَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُمْ هُوَ قَتْلٌ لَمْ تُبَاشِرْهُ أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّمَا بَاشَرَتْهُ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ الْفَارِسِ وَإِذَا بِرَأْسِهِ قَدْ وَقَعَ أَمَامَهُ مِنْ ضَرْبَةِ الْمَلِكِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا فِقْهَ لَهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كُلِّ قَتْلٍ وَكُلِّ فِعْلٍ مِنْ شُرْبٍ أَوْ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجَمِيعِ، وَكَلَامُ اللَّهِ يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» لَمْ يُرِدْ أَنَّ اللَّهَ حَمَلَهُمْ بِالْقَدَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَصَرِّفًا بِأَمْرِ اللَّهِ مُنَفِّذًا لَهُ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِحَمْلِهِمْ فَنَفَّذَ أَوَامِرَهُ، فَكَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَاَللَّهِ إنِّي لَا أُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُهُ» وَلِهَذَا قَالَ: «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ» فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ يَقْسِمُ مَا قَسَمَهُ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْعَزْلِ «فَسَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ الْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا قَدَّرَ خَلْقَ الْوَلَدِ سَبَقَ مِنْ الْمَاءِ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ شَيْءٍ فَلَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْوَلَدِ أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَ سَبَبًا لَهُ، وَأَنَّ الزَّوْجَ أَوْ السَّيِّدَ إنْ وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْأَسْبَابِ؟
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ نَفِيَ السَّبَبِ كَمَا زَعَمْتُمْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ سَبَبٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الشَّرِّ، كَيْفَ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يَنْفِي مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُثْبِتُونَهُ مِنْ سَبَبِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهَا وَلَا صَرْفُهَا عَنْ مَحَلِّهَا وَلَا مُعَارَضَتُهَا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، لَا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ قَصُرَ عِلْمُهُ: إنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَاعِلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
[مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي الْأَسْبَابِ]
فَالنَّاسُ فِي الْأَسْبَابِ لَهُمْ ثَلَاثُ طُرُقٍ: إبْطَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِثْبَاتُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَقْبَلُ سَلْبَ سَبَبِيَّتِهَا وَلَا مُعَارَضَتَهَا بِمِثْلِهَا أَوْ أَقْوَى مِنْهَا كَمَا يَقُولُهُ الطَّبَائِعِيَّةُ وَالْمُنَجِّمُونَ وَالدَّهْرِيَّةُ، وَالثَّالِثُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ: إثْبَاتُهَا أَسْبَابًا،