صِغَارِ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ التَّابِعِ، وَالتَّابِعُ مِنْ دُونِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ، وَالْأَعْلَى لِلْأَدْنَى أَبَدًا، وَكَفَى بِقَوْلٍ يُؤَوِّلُ إلَى هَذَا تَنَاقُضًا وَفَسَادًا.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ حَدُّ الْعِلْمِ التَّبْيِينُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، فَمَنْ بَانَ لَهُ الشَّيْءُ فَقَدْ عَلِمَهُ، قَالُوا: وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ، وَمِنْ هَهُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْبَخْتَرِيُّ:
عَرَفَ الْعَالِمُونَ فَضْلَكَ بِالْعِلْمِ ... وَقَالَ الْجُهَّالُ بِالتَّقْلِيدِ
وَأَرَى النَّاسَ مُجْمِعِينَ ... عَلَى فَضْلِكَ مِنْ بَيْنِ سَيِّدٍ وَمَسُودِ
[التَّقْلِيدُ وَالِاتِّبَاعُ]
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالِاتِّبَاعُ: مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: كُلُّ مَنْ اتَّبَعْت قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْك قَبُولُهُ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الدَّلِيلَ عَلَيْك اتِّبَاعُ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ، وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ.
وَقَالَ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي أَخْبَارِ سَحْنُونِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إلَى ابْنِ هُرْمُزَ، فَكَانَ إذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا، وَإِذَا سَأَلَهُ ابْنُ دِينَارٍ وَذَوُوه لَا يُجِيبُهُمْ، فَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دِينَارٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لَا يَحِلُّ لَك؟ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يَسْأَلُك مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا وَأَسْأَلُك أَنَا وَذَوِيَّ فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إنِّي قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ، إذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ، وَإِنْ سَمِعَا خَطَأً تَرَكَاهُ، وَأَنْتَ وَذَوُوك مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ.
قَالَ ابْنُ حَارِثٍ: هَذَا وَاَللَّهِ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ، لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ مِنْ الْعِقَابِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ: لِمَ قُلْت بِهِ وَخَالَفْت السَّلَفَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا؟ فَإِنْ قَالَ: " قَلَّدْت لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا عِلْمَ لِي بِتَأْوِيلِهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ