فَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ دُونَ غَيْرِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لِسِرٍّ بَدِيعٍ، فَإِنَّهَا سُورَةُ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا أُصُولَ النِّعَمِ وَفُرُوعَهَا، فَعَرَّفَ عِبَادَهُ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ النِّعَمِ أَضْعَافَ هَذِهِ بِمَا لَا يُدْرَكُ تَفَاوُتُهُ، وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ بَعْضِ نِعَمِهِ الْعَاجِلَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَطَاعُوهُ زَادَهُمْ إلَى هَذِهِ النِّعَمِ نِعَمًا أُخْرَى، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ تَمَامَ التَّوْفِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] فَلِهَذَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: " فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ ".
فَهَذَا بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ذِكْرُ تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَذِكْرِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ [إثْمُ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ]
قَدْ تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وَأَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَشَرْعِهِ وَدِينِهِ. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْمًا يَتَمَارَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ» فَأَمَرَ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكِلَهُ إلَى عَالِمِهِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ الْقَوْلَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عُذْرُهَا قَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَهَا، قَالَتْ: فَقُلْت: أَلَا عَذَرْتنِي عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت مَا لَا أَعْلَم،؟
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَهْ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ آيَةٍ، فَقَالَ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ وَأَيْنَ أَذْهَبُ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا؟