دِينِهِ إرَادَةُ خِلَافِهِ، فَقَصَّرُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَأَقْدَمُوا عَلَى تَعْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِهْلَاكِهَا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَتَبَيُّنٍ هَلْ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ أَطَاعَ غَيْرَهُ فِي صَرِيحِ مُخَالَفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي الْعَاقِبَةِ.
[لَمْ يَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ] ؟ .
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أُمُورًا: مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَا يَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، وَهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْمَلُ الْأُمَّةِ إيمَانًا، وَلَكِنْ بِحَمْدِ اللَّه لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، بَلْ كُلُّهُمْ عَلَى إثْبَاتِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ، لَمْ يَسُومُوهَا تَأْوِيلًا، وَلَمْ يُحَرِّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا تَبْدِيلًا، وَلَمْ يُبْدُوا لِشَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالًا، وَلَا ضَرَبُوا لَهَا أَمْثَالًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا فِي صُدُورِهَا وَأَعْجَازِهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ حَقَائِقهَا وَحَمْلِهَا عَلَى مَجَازِهَا، بَلْ تَلْقَوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَابَلُوهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّعْظِيمِ، وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِيهَا كُلِّهَا أَمْرًا وَاحِدًا، وَأَجْرَوْهَا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَيْثُ جَعَلُوهَا عِضِينَ، وَأَقَرُّوا بِبَعْضِهَا وَأَنْكَرُوا بَعْضَهَا مِنْ غَيْرِ فُرْقَانٍ مُبِينٍ، مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ كَاللَّازِمِ فِيمَا أَقَرُّوا بِهِ وَأَثْبَتُوهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ تَنَازُعُهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إذَا رَدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا شَرَطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء: 59] نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجِلِّهِ، جَلِيِّهِ وَخَفِيِّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيَانُ حُكْمِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَافِيًا لَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَيْهِ؛ إذْ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ النِّزَاعِ إلَى مَنْ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُ فَضْلُ النِّزَاعِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الرَّدُّ إلَيْهِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ