وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَإِلَّا فَلَا يُفْتِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي: سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَلُ أَحْمَدَ: إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَثَلَاثَ مِائَةِ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَحَرَّكَ يَدَهُ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَسَأَلْت جَدِّي مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قُلْت: فَكَمْ كَانَ يَحْفَظُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ قَالَ: أَخَذَ عَنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ.
قَالَ أَبُو حَفْصٍ: قَالَ لِي أَبُو إِسْحَاقَ: لَمَّا جَلَسْت فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ لِلْفُتْيَا ذَكَرْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ لِي رَجُلٌ: فَأَنْتَ هُوَ ذَا لَا تَحْفَظُ هَذَا الْقَدْرَ حَتَّى تُفْتِي النَّاسَ، فَقُلْت لَهُ: عَافَاك اللَّهُ إنْ كُنْت لَا أَحْفَظُ هَذَا الْمِقْدَارَ فَإِنِّي هُوَ ذَا أُفْتِي النَّاسَ بِقَوْلِ مَنْ كَانَ يَحْفَظُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إذَا لَمْ يَحْفَظْ مِنْ الْحَدِيثِ هَذَا الْقَدْرَ الْكَثِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالتَّغْلِيظِ فِي الْفَتْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةَ أَبِي إِسْحَاقَ لَمَّا جَلَسَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّدُ أَحْمَدَ فِيمَا يُفْتِي بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ عَلَى كِتَابِ الْعِلَلِ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
قُلْت: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ:
. [هَلْ تَجُوزُ الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ] ؟ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ عَالِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَتْ الْفَتْوَى لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمُ فِيمَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ قَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ ابْنُ بَطَّةَ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْبَرْمَكِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا سَمِعَ مَنْ يُفْتِي، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ لِغَيْرِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلَا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ أَصَحُّ