الْجِهَادِ، وَبِهَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ الْعِبَادِ؛ فَهِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَمِفْتَاحُ عُبُودِيَّتِهِ الَّتِي دَعَا الْأُمَمَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ إلَيْهَا، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ؛ وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَأَسَاسُ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ، وَقُدْوَةً لِلْعَالَمَيْنِ، وَمُحَجَّةً لِلسَّالِكِينَ، وَحُجَّةً عَلَى الْمُعَانِدِينَ، وَحَسْرَةً عَلَى الْكَافِرِينَ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدَيْنِ الْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ نِعْمَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهَا شَكُورًا، فَأَمَدَّهُ بِمَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُبِينَ، الْفَارِقَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ، فَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصِّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فَإِذَا ذُكِرَ ذُكِرَ مَعَهُ كَمَا فِي الْخُطَبِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّأْذِينِ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ، وَسَدَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا إلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِهِ؛ فَهُوَ الْمِيزَانُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَى أَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تُوزَنُ الْأَخْلَاقُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ، وَالْفُرْقَانُ الْمُبِينُ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ يُمَيَّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَلَمْ يَزَلْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مُشَمِّرًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ، صَادِعًا بِأَمْرِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، إلَى أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأَمَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ الْجِهَادِ، فَأَشْرَقَتْ بِرِسَالَتِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا، وَتَأَلَّفَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ شَتَاتِهَا، وَامْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ نُورًا وَابْتِهَاجًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَأْثَرَ بِهِ وَنَقَلَهُ إلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَالْمَحِلِّ الْأَسْنَى، وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ الْغَرَّاءِ، فَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَمَا وَحَّدَ اللَّهَ وَعَرَّفَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَوْلَى مَا يَتَنَافَسُ بِهِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَأَحْرَى مَا يَتَسَابَقُ فِي حَلَبَةِ سِبَاقِهِ الْمُتَسَابِقُونَ، مَا كَانَ بِسَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ كَفِيلًا، وَعَلَى طَرِيقِ هَذِهِ السَّعَادَةِ دَلِيلًا، وَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اللَّذَانِ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِمَا، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِسَبَبِهِمَا، فَمَنْ رُزِقَهُمَا فَقَدْ فَازَ وَغَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَالْخَيْرُ كُلُّهُ حُرِمَ، وَهُمَا مَوْرِدُ انْقِسَامِ الْعِبَادِ إلَى مَرْحُومٍ وَمَحْرُومٍ، وَبِهِمَا يَتَمَيَّزُ الْبَرُّ مِنْ الْفَاجِرِ وَالتَّقِيُّ مِنْ الْغَوِيِّ وَالظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ لِلْعَمَلِ قَرِينًا وَشَافِعًا، وَشَرَفُهُ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ تَابِعًا، كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْفَعُهَا عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اقْتِبَاسِ