قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ} [القصص:82] الأظهر أنها معنى للتعجب.
وقد اختلف النحويون في أصلها، فقال بعضهم: إن أصلها مكون من ثلاثة من: وي، وكاف الخطاب، و (أن) المصدرية أخت (إن).
وقال بعضهم: إنها مكونه من أربع من: وي، وكاف الخطاب، والفعل أعلم، وأن المصدرية أخت إن المكسورة الهمزة، ممن قال بالثاني ثعلب والكسائي وأضرابهما من أئمة أهل الكوفة، وممن قال بالأول: الأخفش وقطرب.
ثمر على طالب العلم ثلاثة: الأخفش الكبير والأخفش الأوسط والأخفش الصغير.
الأخفش الكبير أستاذ سيبويه، وإذا أطلق الأخفش يراد به تلميذ سيبويه.
وقد مر معنا أن سيبويه تناظر مع الكسائي وخرج مغضباً من بغداد إلى الأهواز في إيران الآن ومر على تلميذه الأخفش واسمه سعيد بن مسعده وأخبره بالقصة، والذي يظهر أن الأخفش تلميذ بار بـ سيبويه فغضب وحنق على أن شيخه غلب، فخرج إلى بغداد يريد أن ينتقم من الكسائي لكن: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان صلى الفجر في المسجد الذي يصلي فيه الكسائي، والكسائي إمام في اللغة وفي القرآن وفي القراءات فلما فرغت الصلاة أتى وهو مشحون، وكان الكسائي معظّم أمام طلابه مثل الفراء وغيره، فأخذ الأخفش يغلظ له في الأسئلة ويرد عليه ويجادله حتى هم طلاب الكسائي أن يضربوه، لكن الكسائي كان عاقلاً، ففهم من هذا وقال: إن لم يخب ظني فأنت الأخفش: سعيد بن مسعده قال: نعم، فقام الكسائي من محرابه وأقبل عليه وعانقه وضمه وأخذ يرحب به: أهلاً بطالب العلم أهلاً بالشيخ أهلاً بأهل الفضل، وأخذ يلاطفه ويكرمه، وكان الكسائي ذا جاه، وهكذا حتى استحالت الوحشة إلى محبة وجعله معلماً لأولاده.
وعند الخلاف بين البصريين والكوفيون يكون الأخفش في بعض المسائل مع الكوفيين؛ لأن الكسائي إمام أهل الكوفة فيميل معه من باب ما وجده من ملاطفة، فأكثر أهل البصرة -في آرائه- موافقاً لأهل الكوفة هو الأخفش للصنيع الذي صنعه معه الكسائي.
وفي هذا تعليم لنا جميعاً كيف أن الإنسان يحول خصومه إلى أهل محبة.
الثاني: قطرب، وقطرب أصلاً: دويبه تكد في النهار كثيراً، وتعرفها العرب.
كان سيبويه رحمه الله يخرج في السحر قبل الأذان لصلاة الفجر، وكلما خرج يجد محمد بن المستنير عند الباب، وكان سيبويه في الثلاثين من عمره ومع هذا يطلب على يديه النحو، فكان محمد بن المستنير يخرج يسهر الليل كله ينتظر متى يخرج سيبويه يستفيد منه، ويسأله من البيت إلى المسجد، يفعل ذلك كل يوم، فقال سيبويه له: إنما أنت قطرب ليل يعني: القطرب في النهار، لكن أنت قطرب ليل، فلزق به الاسم، فأضاع الناس اسمه ولا يعرف بأنه أبو الحسن محمد بن المستنير، وسمي قطرب.
المهم أنه أخذ علمه عن سيبويه، وقطرب والأخفش هما اللذان قالا: إن (وَيْكَأَنَّ) مركبة من ثلاثة، هذه فوائد حول قول الله جل وعلا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82].
((يَبْسُطُ)) يعني: يعطي، ((وَيَقْدِرُ)) يعني: يضيق، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:15 - 16] يعني: ضيق، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] لكن هذا جنس الإنسان أما المؤمن فإنه يرضى.
فائدة: إذا ضيق عليك في الرزق فقل: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون.
والدليل على ذلك أن الله قال في حق المنافقين: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، والرسول الآن قد مات فنقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59].
وهذا تعليم من الله لعباده وأوليائه، جعلنا الله منهم.
قال الله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وهذه مرت معنا وفصلنا فيها كثيراً.
هذا ما يتعلق بالأعلام الثلاثة فرعون وهامان وقارون.