هذا يوم بدر سماه الله فرقاناً؛ لأن الله جل وعلا فرق فيه بين الحق والباطل، وكان يوماً عزيزاً في الإسلام، نصر الله جل وعلا فيه نبيه صلى الله عليه وسلم.
أشار عمر على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل الأسرى، وأخذ الرسول برأي أبي بكر أن يفدوا ويستفيد المسلمون من الفدية، ويستبقونهم لعل الله أن يهديهم، فأنزل الله جل وعلا قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68].
فبعثت قريش تفدي أسراها، وكان من الأسرى العاص بن الربيع، وهو زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو أمامة بنت زينب، وزينب كانت في مكة، وزوجها مأسور في المدينة، فبعثت بفدية تفدي بها زوجها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة -أو بعل المرأة- من المرأة بمكان).
فالمرأة إذا ادلهمت عليها الخطوب لا نجد أحداً تلجأ إليه أكثر من زوجها؛ فهذه المرأة رغم أنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مسلمة، لكن لما علمت أن زوجها أسر أخرجت كل ما في يدها، فأخرجت قلادة كانت أمها خديجة رضي الله عنها وأرضاها ألبستها إياها في يوم دخولها على زوجها، فبعثت بالقلادة، وهي أعز ما تملك من أجل أن تفدي زوجها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها فتذكر زمان خديجة رضي الله عنها وأرضاها.
فورد أنه ذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: بكى، ثم فدي العاص بن الربيع ورجع، فأسلم العاص بعد ذلك في قصة طويلة ليس هذا موضع بسطها.
على الجانب الآخر: كان قريش قوماً أعزة في ذاتهم وإن كانوا على الكفر، فقد كان فيهم أنفة، حتى في الحج كانوا لا يخرجون إلى عرفات، لأنها من الحل، فكانوا لا يخرجون مع الناس، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، أهل الحرم، لا نخرج مع الناس في عرفات، فيقفون قبل عرفات، ولا يفيضون من منىً إلى عرفات، ولهذا قال الله لنبيه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] أي: دعك من قومك وأنفتهم، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].
والمقصود: أن قريشاً كانت بهم أنفة، فأصدروا بياناً رسمياً أوقات الحروب وهو ألا يبكي أحد، والإنسان إذا لم يبك يزداد الألم في قلبه.
وذات يومٍ كان أحدهم قد سمع بكاء، وقد مات له ثلاثة أولاد، فقال لأحد أبنائه: اذهب وانظر فإني أسمع امرأة تبكي لعل قريشاً أذنت أن يبكى على القتلى، فذهب الولد ووجد امرأة تبكي على بكر لها أضلته، وهو الفتى من الإبل، فرجع إلى أبيه فقال: ما وراءك؟ قال: هذه امرأة تبكي على بكرٍ أضلته، فقال: أتبكي أن يضل لها بعيرٍ ويمنعها من النوم السهود فلا تبك على بكر ولكن على بدرٍ تقاصرت الجدود على بدرٍ صراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد ألا قد ساد بعدهم رجال ولولا يوم بدر لم يسودوا وأخذ يذكر نحيبه وشجونه على أبنائه الذين قتلوا في بدر.
هذا حصيلة ما كان في يوم بدر، وقد خص الله جل وعلا تلك الفئة في يوم الفرقان؛ فاطلع عليهم، وقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم.
فهؤلاء الفئة الثلاثمائة والأربعة عشر هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وقلنا: إن جبريل كان في ذلك اللواء، وقلنا: إن قول كعب: وبيوم بدرٍ إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد هو أفخر بيت قالته العرب؛ لأنه لا يوجد راية يمكن أن تقع في التأريخ كله من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة يجتمع تحتها محمد بن عبد الله وجبريل، وأبو بكر وعمر وغيرهم من سادة المهاجرين والأنصار، فلا أحد في الأنبياء أفضل من محمد، ولا أحد في الملائكة أفضل من جبريل، ولا أحد في حواري الأنبياء أفضل من أبي بكر، وهؤلاء الثلاثة الأئمة في كل فريق اجتمعوا تحت رايةٍ واحدة، فلهذا كانت راية بدرٍ لا تعدلها راية؛ رزقنا الله حبهم وجوارهم في جنات النعيم! هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، وأعان الله جل وعلا على الحديث عنه، وهم أربعة أعلام، جبريل، والكوثر، وعزير، ويوم الفرقان.
وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.