وإنما صولحوا على الجلاء فملّك الله تعالى مالهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحكم فيه بما أراد وكان فيه فدك فصحّ عن الصحابة منهم عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ منه ما يكفيه وأهله ويجعل الباقي في السلاح الذي يقاتل به العدوّ وفي الكراع. فلما توفّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طالبت فاطمة رضي الله عنها على أنه ميراث فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: أنت أعزّ الناس عليّ غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» «1» ولكنّي أقرّه على ما كان يفعله فيه، وتابعه أصحابه بالشهادة على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذا قال حتّى صار ذلك إجماعا، وعمل به الخلفاء الأربعة لم يغيروا منه شيئا وأجروه مجراه في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأما معنى «لا نورث ما تركنا صدقة» فقد تكلّم فيه العلماء فقال بعضهم: معنى «لا نورث» كمعنى لا أورث كما يقول الرجل الجليل: فعلنا كذا، وقيل: هو لجميع الأنبياء لأنه لم يورث أحد منهم شيئا من المال، وقالوا: معنى خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] معناه خفت ألا يعملوا بطاعة الله جلّ وعزّ.
ويدل على هذا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6] . ومعنى يَرِثُنِي النبوة والشريعة وكذلك وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] ومعنى «ما تركنا صدقة» فيه أقوال: فمن أصحّها أنه بمنزلة الصدقة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يملك شيئا. وإنما أباحه الله جلّ وعزّ هذا فكان ينفق منه على نفسه ومن يعوله، ويجعل الباقي في سبيل الله. فهذا قول، وقيل:
بل قد كان تصدق بكل ما يملكه، وقيل: «ما» بمعنى الذي أي لا نورث الذي تركناه صدقة وحذفت الهاء لطول الاسم ويقال: «وجف» إذا أسرع، وأوجفه غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي كما سلّطه على بني النضير.
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
في هذه الآية أربعة أقوال: منها أنه الفيء الأول وأنّ ما صولح عليه المسلمون من غير قتال فهذا حكمه، وقيل: بل هذا غير الأول، وهذا حكم ما كان من الجزية ومال الخراج أن يقسم. وهذا قول معمر، وقيل: بل هذا ما قوتل عليه أهل الحرب. وهذا قول يزيد بن رومان. والقول الرابع أن هذا حكم ما أوجف عليه بخيل وركاب، وقوتل عليه فكان هذا حكمه حتّى نسخ بالآية التي في سورة «الأنفال» «2» والصواب أن يكون هذا الحكم مخالفا للأول لأنه قد صحّ عمن تقوم به الحجّة أن الأول في بني النّضير وأنه جعل حكمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الثاني على خلاف ذلك لأنه فيه