والثالث: يحكى عن الكوفيين زعموا أنَّ النصب على إسقاط حرف الخفض؛ كأنَّه قيل: ما بين بعوضة فما فوقها، وحكوا أنّ العرب تقول: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وأنكر المبرد هذين الوجهين.
وأجود هذه الأوجه الوجه الأول؛ وذلك أنّ (يضرب) لمَّا صارت لضرب الأمثال صارت في معنى (جعل) فجاز أنّ تتعدى إلى مفعولين، وإذا كانت كذلك كانت من جملة ما يدخل على المبتدأ والخبر، هذا أقيس ما يُحمل عليه، وإنما اخترته لأنني وجدت في الكتاب العزيز ما يدل عليه؛ وذلك بأنني وجدت فيه قوله تعالى: (إنما مثلُ الحياةِ الدنيا كماءٍ)، فمثل الحياة الدنيا: مبتدأ، وكماء: الخبر، كما تقول: إنما زيدٌ كعمرو، ووجدت فيه (واضربْ لهُم مثلَ الحياةِ الدُنيا كماء) فأنت ترى كيف دخلت (اضرب) على المبتدأ والخبر فصار هذا بمنزلة قولك: ظننت زيدًا كعمرو.
ويجوز الرفع في بعوضة من وجهين:
أحدهما: أنّ تكون خبراً، لمبتدأ محذوف يكون في صلة (ما) على أنّ تكون (ما) بمنزلة (الذي)، فيكون التقدير: إنّ الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلا ما هو بعوضة. أي: الذي هو بعوضة.
والوجه الثاني: أنّ يكون على إضمار مبتدأ، لا يكون صلة في (ما) ولا تكون (ما) بمعنى (الذي) كأنّه قال: إن الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلا ما. قيل: ما هو؟
قيل: بعوضةٌ، أي: هو بعوضة، كما تقول: مررت برجل زيد.
وقد قيل: إنّ (ما) هاهنا يجوز أنّ تكون كافة للفعل. فيستأنف الكلام بعدها، وهو على معنى المفعول، قال الشاعر
أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّدِ بعدما ... أَفْنانُ رأْسِكِ كالثَّغامِ المخُلِس.