ثم قدم المهدي على مالك، وقد وضع أجزاء كتابه (المُوطأ) فأمر بانتساخها وقرِئت على مالك.
إلى أن كانت سنة 174 هـ فخرج الرشيد حاجاً، ثم قدم المدينة زائراً، فبعث إلى مالك فأتاه فسمع منه كتابه ذلك، وحضرهُ يومئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف من
رؤسائهم أحد إلا وحضر الموسمَ مع الرشيد، وسمع وسمعوا من مالك موَطأهُ كله، ثم أنكروا عليه مسألة فناظروه فيها، حتى إذا كشَف لهم عن وجهها وأبان فيها طريق الرواية والتأويل صاروا
إلى الرضى بقوله والتصديق لروايته والتسليم لتأويل ما تأوّل.
لا جرَمَ كان هذا سبباً في اجتماع كلمة الفقهاء، إن لم يكن ديانةَ فسياسة، ولم يؤثرَ من بعدها عن جماعة أهل العراق ما كانوا يستطيلون به على أهل الأمصار الأخرى، من عرض الدعوة
وتطويل الحديث، وتخطئة من لا يليهم أو يواليهم؛ وقد كانوا قبل ذلك يربونهم ويضيقون عليهم متنفسهم من العلم، ويرون أن هذا العلم عراقي، وأنْ ليس الأمر مع غيرهم بحيث إذا هو
جد فيه رأى المادّة مؤاتية وبلغ منه مثل الذي بلغوه وكان دركه حقيقاً بأن يسمى عندهم دركاً،
ولعل ذلك جاءهم في الأصل من قبل العربية وأهلها، فقد علمت من (باب الرواية) كيف كانوا يبسطون ألسنتهم ويتنبَّلون بعلمهم ويذهبون بأنفسهم؛ إذ لم يكن في الأرض أعلم منهم بالعربية؛
ولا أوثق في روايتها، ولا أجمع لأصولها، ولا أصح في ذلك كله.
ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها،