وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمَه، ولا يدركون حكمَه، ولا ينزعون أخلاقه وشيَمه؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عربية كانت

شراً من العجمة الخالصة واللكنة الممزوجة، فلا يقرون هذا الكتاب إلا أحرفاً. ولا ينطقون إلا أصواتاً، وتراهم يرعونه آذانهم وهم بعدُ لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس، وفي

هؤلاء الجاهلُ والفاسق والوضَاع والقصاص وذو الغفلة والمتهم في دينه وفهمه، ومن أكبرُ عرضهِ من القرآن حججُ المخاصمة وبينات الجدل في مقارعة أو الرد على مذهب أو التأول لرأي أو النضح عن فئة، أو ما يشابه ذلك! وأولئك جمهورُ من يفهم عنهم المسلمون إلا نادراً، ولا حكم

للنادر.

وماذا أنت صانع بأحكم ما في الحكمة، وأبينِ ما في البيان، وأسد ما في الرأي، وأبدع ما في الأدب، وأقوم ما في النصيحة، وبما هو التامُّ الجامع لكل ذلك - إذا جعلتَ تملأ به مسامعَ

الناس وأنت لا تصيب فيهم وجهاً من وجوه الاستواء، ولا تملك إليهم سبباً من أسباب التأثير،

ولا تقع منهم بالحكمة والبيان والرأي والأدب والنصيحة، وبما هو الزمام عليها - إلا في فنون من

جهل الجهلاء ولغَط العامة وأوهام السخفاء، وفي انتقاضِ الطباع واختلاط المذاهب، فلا تجد إلا قلوبهم مَساغاً (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) .

لا جَرمَ كانت هذه علة العلل في أن القرآن الكريم لم يعد له من الأثر في أنفس أهله ما كان له من قبل، ولا بعض ما كان له؛ إذ لم يتدبروه بمثل القرائح التي أنزل عليها، أو بقريب منها في

الذوق والفهم والبصر بمواقع الكلام، ولم يجروه من ذلك على حقه، بل أصبحوا لا يَستَحون من الله أن يجعلوا قراءةَ كتابه ضرباً من العبادة اللفظية يَرجون عند الله حسابها؛ ويبتغون في الأعمال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015