لا نتكلم في هذا الفصل عن الوجوه اللغوية التي ابتدعها القرآن في الكلام فصارت من بعده نهج الألسنة والأقلام، ولا عن وجوه تأثيره باللغة: فإن لكل من ذلك موضعاً هو أملك به، وإنما
نقص لك طرفاً من القول في هذه اللغة كيف ظهرت في آياته للزمان حتى لا يظن أنها لغة عصرها،
وكيف بهرت بغاياته في البيان حتى ليقال إنها لغة دهرها، وكيف جاوز بها قدرها الطبيعي بعد أن صار هو من قدرها.
نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من
أجزائه وفي أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير
الأرض، وإنما كان ذلك لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجزاها في ظاهرها على بواطن أسرارها.
فجاء بها في ماء الجمال أملاً من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصوَّرها الحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحول التراكيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا
يقضى العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود؛ لأنها هي
لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم، ورقة غير ما انتهى إليهم من أمر الحاضرة.
وهذا معنى ليس أظهر منه في إعجاز القرآن، فإن اللغة لا تشب عن أطوار أهلها متى كانت من غرائزهم، وإنما تكون على مقدارهم ضعفاً وقوة لأنها صورتهم المتكلمة وهم صورتها المفكرة، فهي ألفاظ معانيهم وهم في الحقيقة معاني ألفاظها؛ ولذلك لا تزيد عليهم
ولا ينقصون عنها ما دام رسمهم لم يتغير وما دامت عادتهم لم تنتقل، فإن سنح لامرئ من أهل النظر أن يستدل في لغة من اللغات على آثار أمتها بنوع من القيافة المعنوية؛ كما يستدل صاحب القيافة
النظرية من الأثر في الطريق على مذهب صاحبه لا يخطئه، وعلى بعض صفاته لا يتعداها - فذلك
ممكن لا تهن فيه القوة ولا يبلغ به الإعياء، متى هو تقدم فيه بالذهن الثاقب وتعاطاه بالقريحة النافذة، لأنه يستظهر من اللغة الصفات على الموصوف، ويجعل المعروف قياساً لغير المعروف.
وأنت إذا صبغت يدك بهذا الفن من القيافة اللغوية، وحاولت أن تستخرج من لغة القرآن ما
يصف لك العرب على أخلاقهم وطباعهم ومبلغهم من العلم؛ فإنك تحاول محالاً، وتكابر فيما يأبى عليك وما ليس في الحيلة إليه غير المكابرة، حتى إن الذي لا يعتقد مستبصراً أن هذا القرآن