فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه، وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسَهَّلَ له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي
عمر كتبوه على ما وقَفَهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف
منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبي بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه (الفهرست) ،
وقال ابن فارس: إن السور في مصحف علي كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبَّت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، ولا حاجة بنا أن نتع في استقصاء هذا الخلاف.
أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت. وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضاً، لما مرَّ في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم.
ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على
ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيباً أو قراءة، وأطَبق المسلمون على
ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدون في إخراجها وانتساخها.
ولقد روى المسعودي أنه رُفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخُدعة المشهورة التي
أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات.
وهنا أمر لا مذهبَ لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب،